Friday 27/06/2014 Issue 15247 الجمعة 29 شعبان 1435 العدد
27-06-2014

رسالة الحلوى

لم أكن لأكتب عن رسالة الحلوى لابن شهيد الأندلسي لولا أن رمضان الكريم، قد ومض بريقه، وقربت روائح رحيقه، وتسامى ندّه، وأشع مده، وتلهف المسلمون إلى لقائه تلهف الضامين إلى الماء، والمسافر إلى الإيواف والسابغ إلى الطعام، والساهر إلى المنام.

شهر الخير والبركة، والرحمة والمغفرة، والصدقة وصلة الرحم، والتسامح والتسامي عن الأخطاء، فأيّنا لا يحب أن يجني خير الدنيا والآخرة في موسم الإثمار، ويجتهد في الحصول على أعلى المكاسب، وأرفع المراتب، وفي هذا الشهر الكريم تدريب للنفس على ترك الشهوات، والبعد عن المنكرات، وتدريبها أيضاً عن ترك، ما أحلّ الله لها في نهار هذا الشهر الكريم من مأكل ومشرب، وغيره مما لا يجوز في نهار هذا الشهر الكريم، وفي هذا الشهر الكريم، يتسابق الناس على قراءة القرآن، وصلاة القيام، وذكر الباري والناس نيام، وهذه نعم ينعم بها المسلمون الطامحون إلى عفو الله وغفرانه.

في مفارقة عجيبة، يمتنع الناس عن الأكل والشرب في نهار هذا الشهر الكريم، لكنهم ما أن يحل موعد الإفطار حتى يثبوا إلى الأطباق الفاخرة، المليئة بكل ما هو مضر بالصحة، من سكّر وزيت، من مطعم أو صُنع البيت، ولأنّ الشيء بالشيء يذكر، فلعلنا نورد رسالة الحلوى الذي أبدع سبكها الوزير الأديب، أحمد بن شهيد، الذي عاش في الأندلس قبل ألف عام حيث قال:

قال أبو عامر ابن شهيد: «ومن رسالتي في الحلواء حيث أقول: خرجت في لمه من الأصحاب، وثبه من الأتراب، فيهم فقيه ذو لقم، ولم أعرف به، وغريم بطن، ولم أشعر له، رأى الحلواء فاستخفه الشره، واضطرب به الوله، فدار قس ثيابه، وأسال من لعابه، حتى وقف بالأكداس، وخالط غمار الناس، ونظر إلى الفالوذج فقال: بأبي هذا اللمص، أنظروه كأنه الفص! مُجاجه الزنابير، أجريت على شوابير، وخالطها لباب الحبة، فجاءت أعذب من ريق الأحبة.

ورأى الخبيص فقال: بأبي هذا الغالي الرخيص! هذا جليد سماء الرحمة، تمخضت به فأبرزت منه زبد النعمة، يُجرحُ باللحظ، ويذوب من اللفظ. ثم لولا حضرة الرقيب! ولمحُ القُبيطاء، فصاح: بابي نُقرة الفضة البيضاء، لا تُردُ عن العضة! أبنار طبخت أم بنور؟ فإني أراها كقطع البدور وبلوزٍ عُجنت أم بجوز؟ فإني أراها عين عجين الموز.

وموشى إليها وقد عدل صاحبها بدرهمين، وانتهشها بالنابين، فصاح: القارعة ما القارعة؟! هية! ويل للمرء من فيه! ورأى الزلابية، فقال: ويل لامها الزانية! أبأحشائي نُسجت، أم من صفاق قلبي ألُفت؟ فإني أجد مكانها من نفسي مكيناً، وحبل هواها على كبدي متيناً، فمن أين وصلت كف طابخها إلى بطني، فاقتطعتها من دواجني؟ والعزيز الغفار، لاطلبنها بالثأر! ومشى إليها، فتلمظ له لسان الميزان، فأجفل يصيحُ: الثعبان الثعبان! ورُفع له تمر النشا، غير مهضوم الحشا، فقال: مهيم! من أين لكم جنى نخلة مريم؟ ما أنتم إلا السُحار، وما جزاؤكم إلا السيف والنار. وهم أن يأخذ منها. فأثبت في صدره العصا، فجلس القُرفُصا، يُذري الدموع، ويُبدي الخشوع. وما منا أحد إلا عن الضحك قد تجلد. فرقت له ضُلوعي، وعلمت أن فيه غير مُضيعي. وقد تجمل الصدقة على ذوي وفر، وفي كل ذي كبد رطبة أجر. فأمرت الغلام بابتياع أرطال منها تجمع أنواعها التي انطقته وتحتوي على ضروبها التي أرضعته، وجاء بها وسرنا إلى مكان خال طيب، كوصف المُهلبي:

خان تطيب لباغي النسك خلوته ... وفيه سترٌ على الفُتاك إن فتكوا

فصبها رطبة الوقوع، كراديس كقطع الجذوع، فجعل يقطع ويبلغُ، ويدحو فاه ويدفع، وعيناه تبصان كأنهما جمرتان، وقد برزتا على وجهه كأنهما خصيتان، وأنا أقول له: على رسلك أبا فلان! البطنة تُذهب الفطنة! فلما التقم جُملة جماهيرها، وأتى على مآخيرها، ووصل خورنقها بسديرها، تجشأ فهبت منه ريحٌ عقيم، أيقنا لها بالعذاب الأليم. فنثرتنا شذر مذر، وفرقتنا شغر بغر، فالتحمنا منه الظريان، وصدق الخبر في العيان: نفح ذلك فشرد الأنعام، ونفخ هذا فبدد الأنام، فلم نجتمع بعدها والسلام.

فاستحسناها، وضحكا عليها، وقالا: إنّ لسجعك موضعاً من القلب، ومكاناً من النفس، وقد أعرته من طبعك، وحلاوة لفظك، وملاحة سوقك، ما أزال أفنه، ورفع غينه.

مقالات أخرى للكاتب