Saturday 12/07/2014 Issue 15262 السبت 14 رمضان 1435 العدد
12-07-2014

صوت الصمت

الصمت هو جملة موسيقية ولها أهمية بنيوية وتأملية في السيمفونيات، ومرة كنت أصور مدينة قديمة مهجورة هي مدينة غدامس الليبية على الحدود مع الجزائر وصورت مشهدا ليلياً لأحد أزقتها المهجورة في الصحراء ثم طلبت من مهندس الصوت أن يبقى في المدينة ليلا ويسجل لي “صوت الصمت” في أزقتها. فخبرني كيف لي أن أسجل صوت الصمت.. قلت له عندما تبدأ التسجيل ثم تسمعه سوف تسمع صوت الصمت!

وعندما سجل لي صمت الأزقة الغدامسية ليلا ووضعته على الصورة التي تبدو ساكتة فإن “صوت الصمت” أعطى حياة للمكان.

أكتب هذا وأنا الآن في اليونان وتعرفت على فريق عمل دعي من قبل مؤسسة جامعية في شمال اليونان لتأرخة أصوات المدينة وحاراتها وأطراف المدينة وضواحيها في المناطق الجبلية. وهدف المؤسسة الجامعية هو عمل متحف صوتي للمدينة لتأرخة ذاكرة المدينة حيث الضيف والباحث والسائح يتمكن عند زيارته للمتحف من مشاهدة المدينة من خلال خارطتها المجسمة وأيضا يسمع صوت الأمكنة فإن أي شارع في المدينة سوف يسمع صوت المكان من خلال الخارطة المجسمة.

حدثني فريق التصوير أنه وبعد أن سجل أصوات المدينة ذهبوا إلى ضواحيها حيث المناطق الجبلية وقد وصلوا إلى بحيرة غاية في الجمال تحيط بها الأحراش أشبه بأسيجة ذهبية وقد اطلعت على مشاهد مصورة للبحيرة وما يحيطها وهذه البحيرة يعود تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف عام عندما نزل نيزك من السماء، كما يقول التاريخ فعمل هذه الحفرة وتفجرت المياه الجوفية لتكون هذه البحيرة الجميلة أثراً تاريخيا رسمته السماء على الأرض. هناك تم تسجيل صوت الصمت حيث لا حد سوى سكون المياه تحيط بها الأحراش التي التي تشبه سنابل القمح. الصمت هناك يحكي التاريخ ويحكي التأمل ويجعل الإنسان يسمع صوت صمت الطبيعة وهو يشاهدها.

ومثل ما لا يوجد ظلام كامل فإنه لا يوجد صمت كامل. وهذا الصمت هو صوت متغيركل زمان فصوت صمت الأمس ليس هو صوت صمت اليوم وسوف لن يكن صوت صمت الغد.

هكذا تؤرشف البلدان المتحضرة حياتها، واليونان التي عرفت بتاريخها العريق، فإن تاريخها هذا هو الذي أجل بناء المترو لسنوات، لأن أدوات الحفر كلما دكت الأرض اصطدمت بأثر تاريخي حتى تعب الغرب الداعم لليونان من أجل إيجاد وسائل تؤمن إنشاء شبكة المترو في العاصمة اليونانية دون المساس بالتاريخ أو تكسيره، واليوم يتم تسجيل مواقع كثيرة من التاريخ الصامت في المناطق النائية من اليونان، وعندما يسجل صوت الصمت في المواقع التاريخية الساكتة فإنه يبعث فيها الحياة ويجعل الرائي يسمع صوت الأغريق في الأزمان الغابرة.

بالمقابل فإنني في العراق وفي خضم بحثي عما فقد منا خلال الحروب عثرت على ملايين الأمتار المصورة مدفونة تحت الأرض وهو شأن خطير ينبغي أن تبلغ عنه منظمة اليونسكو. ونجحت نسبيا في إنقاذها بإخراجها من تحت الأنقاض إلى بناء يؤمن له الحفظ تمهيدا لأية عملية فنية لاحقة تعيد لها اعتبارها.. لكن تلك العملية بدت لي بعيدة المدى وصعبة التحقيق نتيجة غرق الوطن العراقي بالحروب الجديدة المضافة إلى كل تلك الحروب الكارثية السابقة.

تأسيس الذاكرة مسألة حضارية وإنسانية.. والأجداد الإنسانيون حفظوا ذاكرتهم وتركوها لنا وبمنهجية عالية حتى إنني اطلعت في المدرسة الكائنة تحت المتحف البريطاني وفي الرقم الطينية السومرية المحفوظة فيها قيد الدراسة، وكما خبرني أساتذة تلك المدرسة أن السومريين الذي اخترعوا الكتابة المسمارية دونوا طرائق لفظ الحروف والكلمات وشرحوها على تلك الأحجار المفخورة والمسماة بالرقم الطينية لكي تقرأ الأجيال الآتية لغتهم وتلفظها بشكل سليم. وقد أطلعوني عليها ولفظوها لي صوتياً.

هكذا كانت الحضارات تؤسس ذاكرتها ولولا تلك الذاكرة لغابت عنا الكثير من الحقائق الحضارية. مطلوب منا الآن ونحن نعيش عصر التقنية الحديثة والسهلة أن نؤسس ذاكرتنا المكانية البصرية والصوتية بطرائق منهجية وعلمية.

نحن تأريخ الغد وسيحاسبنا الآتون إن لم نخبرهم عنا بقيمنا وبأخطائنا أيضا. العالم متغير بالضرورة العلمية. تتغير الأشياء والأمكنة وتتغير المسافات والأبعاد المكانية بشكل واقعي أو نسبي. ما عشناه بالأمس عندما غبنا عنه بضعة عقود من السنوات وعدنا إليه لم نجده كما شاهدناه على الإطلاق، لذلك فإننا مطالبون بتوثيق واقعنا بشكل منهجي وعلمي ومؤسسات التربية والتعليم ووزارات الثقافة مطالبة بأن تؤرشف ذاكرتها وتؤسس ذاكرتها. ليست الذاكرة المرئية بل الذاكرة المسموعة أيضا وحتى ذاكرة صوت الصمت التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى ولكنها بعلميتها وقيمتها المادية والوجودية فإنها تبعث الحياة في المكان الساكت.

من هذه الذاكرة هي الأصوات. أصوات الحياة وأصوات الغابات والجبال وأصوات الشوارع المكتظة.. أن نصورها ليس بشكل صدفي أو عشوائي إنما بشكل منهجي مقصود ومحسوب ومن الأشياء التي نسجلها ونؤسس ذاكرتها هو “صوت الصمت” مثل صمت البحيرة اليونانية التي تم تسجيله. مطالبون نحن بتسجيل صمت الصحارى وليلها وصمت الأرياف وفجرها وأن نسجل صوت بزوغ الشمس وغروبها، لأن الصوت يتغير هو الآخركل لحظة ونحن لا ندري ولا نشعر بمتغيرات الصوت ومتغيرات الصمت.

نحن لم نسجل صوت الصمت ولا حتى صوت هدير المجنزرات والدبابات التي تجتاج المدن والشوارع في حياتنا العربية والإسلامية فكيف نفكر بتسجيل صمت الحياة وسكوتها الحي!

k.h.sununu@gmail.com

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

مقالات أخرى للكاتب