Sunday 13/07/2014 Issue 15263 الأحد 15 رمضان 1435 العدد
13-07-2014

قطار الربيع العربي في مفهوم القرضاوي !

تألمت كثيراً، وأنا أستمع منذ بعض الوقت إلى - فضيلة الشيخ - يوسف القرضاوي - رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين -، وذلك خلال ندوة نظمها الاتحاد، تحت عنوان: «القدس والأقصى بين المؤامرة والمواجهة»، وهو يقول: «إن قطار الربيع العربي كان سينتهي بتحرير فلسطين، - لذا - قامت الصهيونية العالمية، وأمريكا، بالتحرك السريع؛ للقضاء عليه»، فأيقنت - حينئذ - أن معرفة الأحكام الفقهية

، أمر يسير في التحصيل، بخلاف تطبيقها على الوقائع، فإنه أمر عسير.. إذ إن المعادلة تقتضي: «قيام الأسباب، وانتفاء الموانع».. وتلك مهمة لا يمارسها إلا الراسخون من أهل العلم - تحريماً وتحليلاً -، - إضافة - إلى التصرفات الولائية، التي يمارسها الحاكم - اجتهاداً وتنزيلاً -.

كتبت مرة، أن منهج العلماء الرشيد في التوفيق بين الفقه، وفهم الواقع، يبرز؛ من أجل أن تُبنى عليه الأحكام الصحيحة؛ مراعاة للمصلحة، أو مجافاة للمفسدة، باعتباره يندرج في وعاء تحقيق المناط، سواء أطلقنا عليه لفظ: «السياسة الشرعية»، أو «الاستصلاح»، أو «الاستحسان».. ففقه الواقع مع مراعاة واقع متقلب، ومتوقع مترقب، ناشئ عن تحقيق المناط، الدائر مع المصالح، والمفاسد، شريطة ألا يخل بمصلحة شرعية معتبرة، أو يؤدي إلى مفسدة أعظم مطلوبة الدرء شرعاً.. - وعندئذٍ - لا يحق للعالم الشرعي، أن يصدر فتوى مجردة عن واقعه الذي يعيشه؛ لتحقيق ما استطاع من متطلبات، بل والعمل على حفظ الإمكانات، والمقدرات، والكليات.

كنت قلقاً - يوماً ما -، وما زلت من أن تحمل تلك الثورات - في طياتها - مزيداً من الضعف الأمني، والانقسام، والانقلاب على المصلحة العليا للأوطان.. وأن يسير المشروع الأمريكي في القضاء على تلك الثورات، تحت شعار: «تجزئة المجزأ، وتقسيم المقسم»؛ لترتيب مصالحها في المنطقة، في مقابل تدمير الأوطان، وتمزيق الشعوب، وإغراقها بالفتن، والدماء.. فالقصة باختصار - يا فضيلة الشيخ -: ليست ديمقراطية، ولا ديكتاتورية، بل مصالح غربية إسرائيلية، وعلى طريقة: «الخطوة خطوة».

منذ الوهلة الأولى لأحداث ما يُسمى بـ «الربيع العربي»، يظهر للمتابع: أن أمريكا بدت وكأنها مرتبكة، ولكن من وجهة نظر كاتب المقال، فإن يدها الخفية، كانت تلعب دوراً واضحاً، وذلك حين استنفدت أغراضها من تلك الأنظمة؛ لتحل محلها أنظمة أخرى.. وكنت - أخشى ما أخشاه -، أن تنجح في الالتفاف على تلك الثورات، وإحداث الشقاق بين شرائح المجتمعات، من خلال تغذيته بالفراغ، والخلافات، والوصول به إلى أي سيناريو من سيناريوهات الرؤى المضطربة؛ من أجل رسم خريطة المنطقة من جديد، وإحداث التوازنات فيها، وتشكيل المجتمعات العربية، بالطريقة التي تتناسب مع المرحلة القادمة.

ويكفي، أن محاضرة «كوندليزا رايس» عام 2005 م، في الجامعة الأمريكية في القاهرة، أكدت فيها: أن ستين عاماً من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لم تحدث هناك إصلاحات جوهرية.. وأن السياسة الأمريكية الجديدة، ستنتبه كثيراً للمجتمع، وتُنشئ معه علاقات جديدة، علاقات مع المجتمع المدني مع الشاب، والمرأة.. بل إن السفارة الأمريكية في مصر، كانت تعمل منذ عام 2008م، على استقطاب أوسع شريحة ممكنة من الشباب، والمثقفين، وزجهم في الأوساط الانتخابية، التي تجيد انتقاءها في هذا السياق، أو ذاك. - لا سيما - وأن هدفين رئيسين، لا يمكن إغفالهما لتلك السياسة، هما: إحداث انقلابات على أنظمة الحكم، غير المرغوب فيها أمريكياً.. والسيطرة على الانتخابات؛ لتوجيه الناخب؛ للتصويت لمن تريده أمريكا، وهذه هي الديمقراطية بالنكهة الأمريكية.. ويؤكد ذلك، ما نشرته - صحيفة - «الديلي تلغراف» البريطانية، والمقربة من مصادر المعلومات في الاستخبارات البريطانية، أن أمريكا تقف بشكل سري تام، وراء كل ما يحدث من تطورات، أعقبت التظاهرات الشعبية البريئة، وقالت الصحيفة حرفياً باللغة الإنكليزية Egypt protests: America›s secret backing for rebel leaders behind uprising.

بل يذهب الموقع الاستخباري الإسرائيلي، للقول حرفياً: «إن أمريكا شرعت العمل في نهاية 2008 م، مع عدد من المنظمات الأهلية - وليس الأحزاب -؛ من أجل تنظيم الجهود الشعبية للمعارضة المصرية.. وأن العديد منهم جرى دعوته إلى الولايات المتحدة الأمريكية على شكل - دورات تدريب سيمينار -، ولكنها في الحقيقة، دورات تأهيل؛ لكيفية الانقلاب على مبارك، تحت مسميات حقوق الإنسان، وغيرها.. وأن سفارة أمريكا في القاهرة، نجحت فعلاً في الحفاظ على سرية هذا العمل، وتغطية الأمر تحت عنوان: - دورات تدريب إنسانية -، رغم أنها لم تكن كذلك، وكان الهدف خداع المخابرات المصرية.. وبالفعل نجحت السفارة الأمريكية، في خداع المخابرات المصرية».. ويقول الموقع دبكا: «يبدو للبسطاء، أن عشرات آلاف المتظاهرين في شوارع القاهرة، لا قائد لهم، ولا أحد يقودهم، إلا أن الحقيقة غير ذلك، فهؤلاء يجري توجيهم من السفارة الأمريكية، وعبر وسائل إعلام، واتصال.. وأن هناك زعماء، لكن لا أحد يعرفهم غير واشنطن، كيلا يجري الإمساك بهم».. ويقول الموقع: «إن عملية الاستخبارات الأمريكية، تتكون من مرحلتين، المرحلة الأولى، هي: التخلص من مبارك.. والمرحلة الثانية: إظهار قادة جدد، جرى تربيتهم، وتدريبهم في أمريكا؛ للترشح للانتخابات، وضمان فوزهم.. وهكذا، يجري ضمان حمايتهم دستورياً».

على أي حال - يا فضيلة الشيخ - إن اتفقنا، أو اختلفنا، فإن التاريخ سيكتب يوماً ما: أن من الملفات المفتوحة، والساخنة في الغرب: ملف البلاد الإسلامية، وكل ما يرتبط به من اجتهادات، وثقافات، وحركات سياسية، واجتماعية.. وسيتغير التحرك الأمريكي، في اتجاه تغيير سياساته المجحفة بحق قضايانا، إلى سرقة عقول أجيالنا القادمة؛ لتكون أمريكية.. وستفتح حقبة جديدة في العالم العربي، يمكن وصفها: بحقبة الاحتلال الأمريكي الجديد للمنطقة.

إن رفع الالتباس، وتنبيه الناس في اتجاه تعزيز الوقائع، وتوضيح الحقائق، أمر في غاية الأهمية.. فالمعادلة الصحيحة، هي: أن أمريكا تريد تبديل الوجوه، والأشخاص؛ لإكمال ما بدأه أسلافهم الأوائل.. ومن ثم، فإن التعويل على المواقف الغربية، وعلى رأسها أمريكا، فاشل.. وفي الوقت الذي يطلون علينا بدعم الديمقراطيات، والتلويح بورقة حقوق الإنسان، نعلم يقيناً أن فيه الكثير من الرياء الأخلاقي، والسياسي، خدمة لسياسة الفوضى الخلاّقة في المنطقة، التي تخدم مصالحهم.

إن الجهل بفقه الواقع، أحد أسباب تأخر الأمة، وذلك باتخاذ القرارات الخاطئة المبنية على تصورات غير سليمة، أفقدتنا الانسجام الضروري بين الضمير الديني، والأخلاقي، والواقع الإنساني.. ولذا لا غرابة، ونحن نعيش أحداثاً جسيمة في عالمنا الإسلامي، ليست باعتبار تأثيرها علينا - فقط -، بل على العالم - أجمعه -، أن نشهد من يضع الأحكام الشرعية، والفتاوى الجاهزة في غير موضعها، أو أن يطلقها دون تقييد، وهذا ما أفضى - مع الأسف - إلى فوات مصالح مرجوة، والولوج في مفاسد محققة، بسبب الوقوع في دائرة الجدلية بين الواقع، والمتوقع - بتقلباته وغلباته -، وبين الدليل الشرعي بشقيه - الكلي والجزئي -.. الأمر الذي يجعلنا نحذّر كل من يقحم نفسه في واقع لا يعرفه، وعن مكان لم يعايشه، من إطلاق الأحكام العامة، دون مراعاة الواقع المتقلب، والمتوقع المترقب؛ حتى لا تُطلق التصورات الذهنية أحكاماً؛ نتيجة معلومات ناقصة، أو مشوهة، أو مغلوطة، أو بسبب غلبة العواطف الجياشة في مثل هذه الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية - اليوم -.

ما يهمنا اليوم، هو: نتائج الحدث.. فما حدث، ويحدث، وسيحدث، سيكون له تداعيات كبيرة على المنطقة في المستقبل القريب.. وستدخل تلك البلاد في دوامة من عدم الاستقرار، بعد أن أصبحنا حقل تجارب في مختبرات الدراسات، والبحوث، والأفكار.. - ولذا - فإن تصالح الأنظمة مع شعوبها، والالتفاف إلى حقوقهم، مطالب مهمة - ولا شك -.

drsasq@gmail.com

باحث في السياسة الشرعية

مقالات أخرى للكاتب