Saturday 19/07/2014 Issue 15269 السبت 21 رمضان 1435 العدد
19-07-2014

الداعشيون بيننا

يُروى أن العالم الفيزيائي الشهير ألبرت آينشتاين عالم النظرية النسبية، سُئل ذات مرة: «لماذا تبدي اهتماماً بالمستقبل؟»، فقال: «ببساطة؛ لأننا ذاهبون إلى هناك».

وإذًا فإن الاهتمام بدراسة المستقبل والفكر المستقبلي، يأتي ليس من أجل رؤيته بصورة محددة ودقيقة فقط؛ وإنما لأجل تقديم احتمالات مشروطة يستفيد منها الإنسان خاصة صانع القرار؛ لأنه إذا تنبَّأ بما سيكون من حوادث في المستقبل؛ لأمكنه أن يدفع عن نفسه بعضها، ليس بأن يمنع حدوثها، ولكن بالتحرز منها والاستعداد لها وهذا بلا شك ليس من علم الغيب والغيبيات، ولكن من التوقع كما نتوقع في الطقس وغيره كثير. ومن هذه المنطلقات ومن الخطر المحدق بوطننا بسبب هذه الأحداث الجارية في عدد من دول الجوار من اقتتال وفتنه يقودها الحوثيون وأنصارهم باليمن لفتنة طائفية واقتتال ودماء وأشلاء بسوريا لفتن ونذر حرب أهلية لجارنا الشمالي بالعراق.

الربيع العربي للأسف أتي للعرب بعدد من المآسي والمصائب والكوارث من كان يتصور انقلاب وتغير حالة بلاد مثل سوريا أو ليبيا أو اليمن وانفلات الأمن فيها والخوف والهلع والجوع والأمراض والأوبئة وكثير من الأمراض والكوارث الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسكانية وغيرها بعدما كانت تعيش برخاء واستقرار ورغد عيش.

وعندما يأتي ولي أمرنا ووالدنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله - حفظه الله ورعاه - ليأمر باتخاذ «كافة الإجراءات اللازمة لحماية الأمن الوطني ومكتسبات الوطن وأراضيه، وأمن واستقرار الشعب السعودي الأبي مما قد تلجأ إليه المنظمات الإرهابية أو غيرها من أعمال قد تخل بأمن الوطن» فهذه هي النظرة المستقبلية للمشكلة قبل حدوثها والتي تحدث عنها العالم الفيزيائي ألبرت آينشتاين سابقاً. فبلادنا تواجه اليوم تحديات ومخاطر منها الفكر المتطرف وجماعاته التي لها أجندة معروفة ومطامع لقوى إقليمية تتقاطع مع أهداف تلك الجماعات، وبالتالي وحدتنا الوطنية هي الأداة القادرة على هدم تلك المشاريع قبل اختراقها لمجتمعنا بدعوى المحافظة على الدين أو الطائفة.

ولعل من أكبر المشكلات اليوم والتي تحتاج منا جميعاً لوقفة للمحاسبة واليقظة والتنبه هي ما يسمي اليوم بدولة الإسلام بسوريا والعراق «داعش» وكذلك الإمارة الإسلامية بالشام «النصرة» واللتان تحاولان الآن توسيع نطاق هجماتهما ليأتي انسجاماً مع أيديولوجيتهما الدينية المتطرفة والتكفيرية التي تجعلهما تريان العالم أجمع ساحة لمعركتهما ومشروعهما «الجهادي». ومن المضحك المبكي إعلان كل من داعش والنصرة الأخير قيام «خلافة وإمارة» إسلامية لها أميرها ودعوة الفصائل الجهادية في مختلف أنحاء العالم للمبايعة. وتأتي هذه الخطوة ضمن توسيع لطموحات الجماعة. ووقع هذا الإعلان سيكون عالمياً، لأن الجماعات الجهادية سيتعين عليها الآن أن تختار بين تأييد لداعش أو النصرة والانضمام إليهما أو معارضتهما. وبحسب هذه الأيديولوجية يصبح كل من العراق وسوريا مجرد قاعدة للانطلاق في حرب جهادية ضد كل من لا يستجيب لفكرهما وتفسيرهما المتطرف للإسلام.

ولا أشك مطلقاً بأن «داعش والنصرة» صنيعة من دول عدوة لنا لها أجندات خاصة وتريد تصفية حساباتها على حساب أمننا واستقرارنا. والذي يثبت هذا أن داعش والنصرة لم تحاولا ولو محاولة واحدة أن تقاتلا العدو الأزلي للمسلمين والعرب دولة إسرائيل، ومع العدوان الأخير على غزة كنا نتوقع ونتمنى من «داعش والنصرة» إدانة للعدوان أو رصاصة على إسرائيل ولو حتى تعاطف مع أهل غزة. فأين دولة الإسلام من دولة اليهود ولماذا لم تطلق رصاصة واحدة تجاهه؟ ولماذا هذا السكوت الغريب, ألا يطرح هذا سؤالاً كبيراً عن توجهات داعش والنصرة ومن صنعهما؟. وكذلك أنه ومنذ دخولها الأراضي السورية نجد أن «داعش والنصرة» تستهدفان قيادات المعارضة السورية على اختلاف توجهاتها, بدون التعرض لجنود النظام السوري، فقد اغتالتا عدداً من قيادات الجيش الحر كما حاصرتا الفصائل الإسلامية الأخرى بسبب أنها أشد من ينتقد «داعش والنصرة» ويهاجمهما، وهو ما يعزز الشكوك حول حقيقة هذه التنظيمات. وهناك مؤشر آخر يتمثل في تسجيلات «اليوتيوب» لأنشطتهما الإرهابية التي تقومان بنشرها، حيث نلاحظ أن الرسالة الإعلامية المقصودة من هذه التسجيلات التي تتضمن مهازل متمثلة في محاكمات أبعد ما تكون عن الشرعية لتعاقب بطرق بشعة بربرية دموية ولا إنسانية وصوراً لقتل المدنيين والتمثيل بجثثهم والتعليقات المصاحبة لهذه العمليات مثل صيحات «الله أكبر» في تشويه مقزز لمفهوم الجهاد، وهو ما نجحت فيه بشكل كبير في سوريا والآن في العراق، وكذلك إثارة فتن طائفية في المجتمعات العربية. داعش والنصرة المولودان المشوهان والسفاح الظاهر في ولادتهما كان من الطبيعي أن تتحولا إلى هذه النفسية المأزومة والعقلية المتطرفة التكفيرية والتي للأسف أنها وعند نشأتهما جاملهما العلماء وحاباهما الدعاة وتجاهلهما السياسيون ولعبتا على عقول وعواطف الشباب حتى صارت إلى ما صارت إليه. فداعش والنصرة مثل البناء الذي يقوم على أسس معوجة وفاسدة فمصيره حتما الانهيار كلما ازداد علوه، وهذا حال فكر القاعدة والذي يعد تنظيما النصرة وداعش أكثر أشكاله تطرفًا في الإخلاص للأسس الفكرية التي قام عليه فكر القاعدة وتلتزم بها بل هي التعبير الأكثر وضوحًا عنها.

وداعش والنصرة تجند وتؤدلج المراهقين بفكرهما الأممي الثوري الذي لا يؤمن بحدود الدول وهذا ما يجعلهما جذابين لدى الجهلة السذج وذلك بحد ذاته مغرٍ لكثير من الصغار المتحمسين, ثم إن «داعش والنصرة» تستهدفان في النهاية تقويض الدول العربية والمسلمة، على اعتبار أن «قتال المرتد أولى من قتال الكافر الأصلي - بحسب نظرتهم المتطرفة التكفيرية والدموية.

إن إعلان ظهور فروع لـ»داعش» في العراق وغيرها يعني استهلاكاً للتنظيم وإضعافاً لقدرته وقوته وتعرضه أكثر للاختراقات والانشقاقات. ويبدو أن «داعش» يشهد الآن تراجعاً وضعفاً منذ إعلان فروع خارج القدرة التنظيمية لما يسمى «الدولة الإسلامية»، وهذا التمدد يمكن تصنيفه بأنه كان من الجهود الاستباقية للاستقواء على تنظيم القاعدة الأم وللدعاية، وتنظيم «داعش» من المتوقع أن يشهد تراجعاً وانشقاقات أكثر بعد تكشف بعض فروع التنظيم ووضوح ضعف التنظيم وانحسار القوة اللوجستية لديه. كذلك من أهم عوامل انحسار الفكر الداعشي تدشين إمارة الشام الإسلامية من طرف جبهة النصرة بزعامة الجولاني لمواجهة إعلان قيام الخلافة الإسلامية بإمارة البغدادي، فهذه هي النتيجة النهائية المنطقية لحالة الفوضى والانقسام والتشرذم، فمع دخول سوريا والعراق نادي «الأزمات التي لا حل لها»، حيث بات «التوحش» سمة أساسية في المناطق التي خرجت عن كيانية الدولة التي تحولت إلى حالة من الفشل المزمن، وأصبح الحديث عن سيادة الدولة ووحدة الأمة شيئاً من الماضي بعد أن دخلت المنطقة في مسارات تفكك الدولة السلطوية الوطنية، وولجت سيرورة تفتيت بنية المجتمع التضامنية. فملامح الإستراتيجية الجديدة لجبهة النصرة وإمارتها الوليدة بدت أكثر براغماتية وواقعية وشديدة الوضوح، فهي تدشن شرعية مشروعها وتبرز هويتها السلفية الجهادية القاعدية، دون مواربة ومداراة كما كانت تفعل سابقاً لتفتح حرباً جديدة ومخيفة وتصفية حسابات دموية بين التنظيمين داعش والنصرة.

إمارة الشام الإسلامية إذن هي إستراتيجية النصرة الجديدة في مواجهة خلافة البغدادي الوليدة، ويبدو أن كلاهما بات مقتنعاً باستحالة التعايش والحوار ورأب الصدع، وأصبح مقتنعاً بدخول مرحلة «إدارة التوحش»، الأمر الذي ينذر بصدامات عنيفة ليس بين جناحي القاعدة وحسب، بل بين كافة الفصائل المسلحة التي ستجد نفسها مجبرة على الانحياز لأحد الفريقين دون الآخر.

لكن الفكر المتطرف والغالي هو ذاته في القاعدة «النصرة وداعش» لكنه فكر متطور في تطرفه انشطاري في إجرامه، لذا لا يمكن أن نتنبأ بغد أو بعد غد لكن من المهم أن نكون يقظين من أي نبتة وليدة نجسة مسرطنة خبيثة يمكن أن تخطف شبابنا ذات اليمين وذات الشمال. ولو حاولنا أن نشخص فكر داعش أو النصرة لخلصنا أنهما اختزلتا الإسلام كله في الجهاد، ولم تأخذ بشموليته كعبادات وأخلاق وتعامل وسياسة وعمل خيري وروحانيات, واختزلت الشريعة في تطبيق الحدود حتى بدون محاكمات مستوفيه للمطالب الشرعية يقوم بها أحداث صغار وتسفك فيها دماء الأبرياء المعصومة بلا سبب، يضاف إلى ذلك ضعف في التكوين العلمي لمن يفتون لهم، مما أدى إلى وقوعهم في طوام شرعية لا نهاية لها، ومما قادهم إلى التساهل بسفك دماء الأبرياء وإراقتها ظلماً وعدوناً.

للأسف أن من أكبر الأخطار اليوم هي ذهاب بعض شبابنا السعودي للانضمام لصفوف داعش أو النصرة، فيجب أن نعترف بالحقيقة المرة، وهي كم سعودي في منظمة القاعدة الإرهابية, وكم سعودي الآن في سوريا أو العراق قتل أو يقاتل في أحد الفصائل هناك, كم سعودي سبق أن قاتل في أفغانستان والصومال واليمن والشيشان والبوسنة وكم وكم وكم.....

هل من المعقول أن يقبل مواطن سعودي واحد بأن يكون أداة في يد تنظيمي «النصرة أو داعش» المجرمين الإرهابيين يستخدمانه ضد عباد الله الآمنين الصائمين يقتل ويدمر ويسفك الدماء في كل مكان ويعتبر ذلك جهادًا في سبيل الله؟ وهل من المعقول أو المقبول أو المتوقع أن يوجد في بلدنا شخص واحد يتعاطف مع هؤلاء القتلة والمجرمين سواء بالتحريض لصالحهم أو الدعوة إلى مناصرتهم أو جمع الأموال لهم أو التعاطف معهم أو الدعاية لهذا التنظيم الضال بالإنترنت أو بوسائل التواصل الاجتماعي من تويتر للفيس بوك للوتس اب وغيرها، أو تضليل الشباب وإغرائهم بالالتحاق بهم والعمل في صفوفهم وهو الإنسان الذي منحه الله العقل وأكرمه بعقيدة السماء الخالدة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى مصدر خير ومودة وسماحة من أجل استمرار الحياة وبناء المجتمعات وليس هدمها؟ هذه التنظيمات المجرمة داعش والنصرة لم تعد مرفوضةً فحسب بل إن وجودها أصبح خطرًا على الجميع وبالتالي يجب طي صفحتها إلى الأبد ووضع حد لمن صنعوها أو يستخدمونها لتحقيق أجنداتهم الخطيرة في منطقتنا. كيف يمكن أن يتصور سعودي واحد يترك بلاد الحرمين أعز وأكرم وأفضل بقعة على وجه المعمورة ويسعي جاهداً في خرابها لأجل عيون داعش أو النصرة. بلادنا هي بلاد الأمن والاستقرار والرفاهية وفي الوقت نفسه هي البلاد الوحيدة في الدنيا التي تطبق شرع الله الواحد الأحد على الجميع وبلا استثناء بعد محاكمات شرعية مستوفية لجميع الشروط والمتطلبات الشرعية. بلاد توفر الحياة الكريمة لمواطنيها في جميع نواحي التنمية البشرية الشاملة التي يعيشها ابن هذا الوطن الكريم، دولة تعيش التطور والتحديث والتقنية محفوفة بقوالب ثابتة من التشريع الإسلامي الحنيف الذي تعتز وتفتخر الدولة بالانتساب إليه والعمل بتشريعاته، دولة تنعم بأنها أكثر دول العالم أمناً وأقل دول العالم جريمة باعتراف الجميع، بمن فيهم المنظمات الدولية، دولة تفتخر بتطبيق شرع الله القويم على كل من يفسد في الأرض بأي شكل من الإفساد؛ وهذا ما زرع الأمن في هذا الوطن بعد طول غياب. فلقد أصبح المواطن لا يخاف على نفسه من القتل أو السرقة أو الخطف، وهذه نعمة كبيرة بل أكبر النعم على الإنسان؛ ولذلك قدمها رب العالمين على الشرك بالله عندما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ}. إذاً الأمن أكبر النعم بعد نعمة الإسلام، ولكن وكما قال الفاروق عمر رضي الله عنه: «تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا جاء للإسلام من لم يعرف الجاهلية». فكثير من شبابنا أخذ الأمن كحق مكتسب بدون تفكير في ثمنه الذي أُزهقت فيه الأرواح الكثيرة.. وبعض شبابنا اليوم لا يُقدر للأمن قيمته، ونشاهد هذا الشباب يتهور ويدمر ويفجّر.. أتمني أن يعي ويدرك شبابنا اليوم قيمة الأمن الذي تنعم به المملكة ولله الحمد.

عندما نرجع للتاريخ نجد أن الجزيرة العربية كانت مشتتة مُنذُ العصر العباسي، ولم يكن لأحد سلطة عليها بسبب كبر مساحتها وقحولة أرضها وقلة مائها وزراعتها؛ لذلك كانت مهملة فعلاً..

كانت هناك دول كبيرة عدة تسيطر على أجزاء من الجزيرة العربية، كالأجزاء الشرقية والغربية والجنوبية. أما في نجد فكانت السلطة ترجع لقيادات كثيرة؛ فكل مدينة أو قرية لها قيادتها، وتعمل تحالفات مع من ترى، وتحارب من ترى. من يصدَّق أن منطقة الرياض وحدها كانت في وقت من الأوقات تحت سلطة ستة عشر حاكماً، كل حاكم له ولايته وجيشه وحدوده وسلطاته؟! وإذا كان هذا في الرياض وحدها فلنا أن نتصور حالة الجزيرة العربية كلها وما أصابها من الفوضى والفتن والقلاقل والقتل ما الله به عليم. وهذا كان يدفع ثمنه المواطن العادي؛ لأن تكلفة جيوش ومقاتلي هذه السلطات تؤخذ من المواطن الذي تفرض عليه الإتاوات والضرائب، ويجب عليه دفعها لحماية نفسه ومنطقته. والمناطق كانت في حروب مشتعلة دائماً، وصديق اليوم هو عدو الغد، وهكذا. وعندما يخرج المواطن العادي من بلده لبلد آخر يجب أن يدبر أمور حمايته الشخصية بالمال والرجال والسلاح حتى يصل لمقصده سالماً. وحتى المدن نفسها لم تكن تسلم من العدوان؛ ولذلك كان لكل مدينة سور مُحْكم يمنع الدخول إليها في أوقات محددة، وعندما تفكر في بعض الرحلات الكبيرة مثل الحج يهرب من عينيك النوم، وكم من الأموال والأنفس تُصرف في مقابل حماية القافلة..!

ولقد كان الحج في حالة مأساوية من الفوضى وسفك الدماء؛ إذ كان فرصة نادرة لضعاف النفوس لسلب ونهب الحجاج الآمنين. ومن أمثلة ذلك من وصف الحالة لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي قال قصيدته (ضجيج الحجيج)، التي خاطب بها السلطان عبدالحميد عام 1904م، يدعوه إلى تأمين سُبل الحاج، وإلى رعايته داخل الأماكن المقدسة وحماية الحجاج، والتي منها:

ضَجَّ الحِجازُ وَضَجَّ البَيتُ وَالحَرَمُ

وَاِستَصرَخَت رَبَّها في مَكَّةَ الأُمَمُ

قَد مَسَّها في حِماكَ الضُرُّ فَاقضِ لَها

خَليفَةَ اللَهِ أَنتَ السَيِّدُ الحَكَمُ

أُهينَ فيها ضُيوفُ اللَهِ وَاِضطُهِدوا

إِن أَنتَ لَم تَنتَقِم فَاللَهُ مُنتقِمُ

أَفي الضُحى وَعُيونُ الجُندِ ناظِرَةٌ

تُسبى النِساءُ وَيُؤذى الأَهلُ وَالحَشَمُ

وَيُسفَكُ الدَمُ في أَرضٍ مُقَدَّسَةٍ

وَتُستَباحُ بِها الأَعراضُ وَالحُرَمُ

يجب أن نعلم جميعاً بأنه ليس هناك ما هو أغلى وأهم من الوطن خاصة إذا كان هذا الوطن هو قبلة المسلمين ويحوي بين جنباته أقدس مقدساتهم وفيه نزع الوحي نوراً للبشرية وفيه يمشي المواطن والمقيم رأسه مرفوع وكرامته محفوظة لا يخشي إلا الله, ولابد من حفظ أمن الوطن فالأمن مثل الهواء لا يستغني عنه أحد، فالوطن لو ضاع - لا قدر الله - لن يجد أحدنا ركناً آمناً ليمارس عباداته عليه، ناهيكم عن الخوف والرعب والجوع والمرض وغير ذلك مما يتعرض له الإنسان بفقده لوطنه - لا قدر الله. و»المواطن رجل الأمن الأول» مفهوم وطني وأمني لابد أن نستوعبه جميعاً في البيت والمدرسة والجامعة والمسجد ومقار العمل، ولا بد أن نكرس مفهوم الإبلاغ عن كل ما يشتبه بأنه قد يضر بالوطن أو قد يسبب الأذى للناس، ولا بد أن نتبنى جميعاً فكراً وقائياً مضاداً للفكر الضال المنحرف كفكر داعش والنصرة وغيرهما البعيد عن جادة الصواب، ولا بد أن نمارس دوراً أمنياً حقيقياً بالاعتدال والوسطية ونبذ العنف والتشدد، وأن نؤسس في الجميع خصوصاً الشباب الحس الأمني تجاه وطننا وما يواجهه من أخطار. ويجب إعلاء قيمة الوطن لدى المواطنين دينياً وتربوياً واجتماعياً وإعلامياً وفكرياً في المساجد والمدارس والجامعات ووسائل الإعلام، التي يبدو أنها آخر من يعلم. فتراخي وزارات مثل (الشؤون الإسلامية والتربية والتعليم والتعليم العالي، والثقافة والإعلام) يؤكد وكأن الجهات الأمنية للأسف تحارب الإرهاب على اختلاف أنواعه وأشكاله وحدها، وكأنها هي فقط من عليها المحافظة على أمن الوطن، وليس كل تلك الوزارات والإدارات التي لها مساس مباشر بشريحة كبيرة من المواطنين، وصفتها تلك تحتم عليها أن تسعى إلى تشكيل وعي المواطنين بأهمية الحفاظ على أمن الوطن واستقراره. وكذلك من المهم العمل على إيجاد مراكز بحوث اجتماعية أمنية لمتابعة مثل هذه الجماعات والخلايا المتطرفة والتكفيرية كداعش والنصرة وغيرها، والتعرف على أسباب نشوئها وتوعية المجتمع حول كيفية تلافيها وعلاجها؛ وكذلك المطالبة بضرورة عقد ندوات، ومؤتمرات خاصة بذلك؛ لتوضيح طرق استهداف الشباب، وإنشاء مواقع، ومنتديات إلكترونية شبابية، وبإدارة شبابية ينشرون من خلالها الوسطية، ويتصدون للأفكار الإرهابية والمنحرفة على اختلافها وتنوعها.

ولا ينكر عاقل الجهود الأمنية المباركة التي قام ويقوم بها رجال الأمن وأسود الوطن فلقد قاموا بالواجب وأكثر، ولكن الجهود الأمنية مع وجوبها وضرورتها وأهميتها تعالج جزءاً من المشكلة وليست المشكلة كلها. الجهود الأمنية تحارب الإرهابي الذي يحمل السلاح ولكن الإرهابي بفكره الذي لا يحمل سلاحاً ولكن ينشر الإرهاب بالفكر والتجنيد والتعاطف والتمويل والدعاية وتبرير هذا الإجرام في حق الوطن وأهله فمن يحاربه.

الإرهاب والعنف السلوكي لابد أن نعترف جميعاً بأنه بدأ بإرهاب وعنف فكري واعتقادي, ودائماً الفكر يولد السلوك.

إذاً حتى نحارب الإرهاب والعنف حرباً حقيقية واضحة وقوية يجب أن نحارب الجذور الفكرية التي تغذي الإرهاب, هذا ينطبق على جبل الثلج العائم فلو تعاملنا مع الظاهر من الجبل هذا لا يمثل شيئاً يذكر مع ما هو تحت الماء. إذاً مع حرب الإرهابي الذي يحمل السلاح علينا، يجب أن نتعامل مع الإرهابي الذي لم يحمل السلاح بعد وإنما ينتظر فرصة مواتية وهذا هو الخطر القادم.

وهنا لابد من إستراتيجية واضحة جلية للتعامل الأمثل مع هذه الظاهرة. ولله الحمد والمنة فلقد قطعنا مشواراً أكثر من جيد ورائع في التعامل مع المسلحين الذين كان همهم وشغلهم تدمير الوطن ومكتسباته.

وحتى نتعامل مع الإرهاب الفكري لابد من نقاط عدة أود التنبيه عليها للأهمية الفكرية لمحاربة الإرهاب, منها أهمية الدعاء للوطن ولرجال الأمن والدعاء على الإرهابيين التكفيريين على اختلاف مشاربهم كل جمعة في كل مسجد مثلما يدعى لإخواننا المسلمين في أصقاع المعمورة، والأقربون أولى بالمعروف. هذا سوف يخلق جواً عدائياً وقاسياً للإرهابيين فعدد من المتعاطفين معهم يصلي الجمعة وعندما يسمع الإمام والمصلين يدعون عليهم فسوف يخلق جواً خانقاً مؤذياً، كذلك أتمنى من وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد إيجاد كتاب سهل للإمام حتى يقرأه على المصلين يبين حقوق الوطن وولاة الأمر وتحريم العنف والقتل وبيان فضل الجماعة والبعد عن الفرقة, فالمسجد له دور أساس في الحفاظ على أمن الوطن ويجب أن يستفاد من موقعه وتأثيره, وللأسف ما زال عدد من جوامعنا تخطب بأسلوب حماسي شديد، ومع تعاطفنا الشديد مع إخواننا المحرومين والمظلومين في أرجاء المعمورة إلا أننا وبطريقة غير مباشرة ندفع عدداً من مراهقينا للذهاب هناك للدفاع عنهم بالسلاح، وهذا تصرف تنقصه الحكمة, والخطيب والإمام الذي لا يرغب أن يكون منبره للدفاع عن وطننا فبيته أوسع له.

يجب أن نتأكد من أن مدارسنا خالية تماماً من كل متعاطف مع الإرهاب والجماعات الإرهابية، فلا نريد متعاطفاً مع العدو في مدارسنا. وهنا لابد للمدرسة أن تنشر وبقوة ثقافة الحرب على الإرهاب بأن يشمل الاصطفاف الصباحي والفسحة كلمة عن الإرهاب والعنف وحب الوطن والانتماء له وأهمية الأمن في المجتمع والآثار المترتبة على الفوضى والتحذير من فكر الخوارج ومن الفتن. المعلم الذي لا يرغب أن يكون أحد أهداف التعليم في فصله ومدرسته للدفاع عن وطننا فبيته أوسع له.

إخواني أن نحارب الإرهاب ونقضي عليه أهم بكثير من مشروع من المشاريع التنموية لأن الإرهاب يقضي ويهدم المجتمع كله ولن نموت لو تأخر مشروع حيوي سنة أو سنتين ولكن سوف وبلا أدنى شك سنتأثر لو تأخرنا في حربنا على الإرهاب سنة أو سنتين.

الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ساقت إلينا مشكلات كثيرة ولابد من السيطرة عليها بأي طريقة كانت، ومن هذه الطرق تشغيل عدد من الشباب الهواة للإنترنت والدفع لهم مقابل أوقاتهم للبحث عن المواقع المشبوهة وتدبرها أو على الأقل الإبلاغ عنها.

للأسف أعداؤنا وأعداء وطننا يوجد بينهم تنسيق عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، ويجب أن نقطع هذه الاتصالات وأن يكون هناك جهود منسقة لهذه الحرب الإلكترونية, كذلك يجب أن يكون هناك مواقع وجهود للتعامل مع المتعاطفين مع الإرهاب والإرهابيين في الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. إذاً نحن أبناء الوطن يجب أن نتقدمهم بالفكر ونحاربهم بالفكرة ونقاومهم بسلاحهم.

أتمنى مرة أخرى من وزارة الداخلية وهي الجهة المسئولة الأولى عن الأمن في المملكة تشكيل لجنة من أهل الاختصاص وعمل ورشات عمل لهم لتنسيق الجهود بين كافة الجهات الحكومية والأهلية والخاصة لإيجاد مشاركة شعبية وجماهيرية لمحاربة ومكافحة الإرهاب فكرياً قبل ما يتطور لإرهاب سلوكي، ويجب أن لا ننسى أن ما قد يصرف على الحرب الفكرية على الإرهاب أقل بكثير ولا يقارن مع مصروفات مكافحة الإرهاب والإرهابيين بالسلاح.

إخواني يجب على الجميع بلا استثناء محاربة الإرهاب والعنف والجماعات الإرهابية التكفيرية والدفاع عن الوطن بكل غال ونفيس، لأنه عندما يكون الوطن في المحك يكون الحياد جريمة بكل تأكيد, وكما قال أحد القادة العظماء «لا تذكر مطلقاً ماذا فعل وطنك لك ولكن أذكر ماذا فعلت أنت لوطنك».

سائلاً الله تعالى أن يحفظ وطننا هذا من كل شر بقيادته الراشدة ويجعل هذا الوطن كما كان وما زال وسيظل بإذن الله منارة للأمن والاستقرار وللخير والكرم والبذل والعطاء لكل إنسان.

- أستاذ علم الإجرام ومكافحة الجريمة والإرهاب - جامعة القصيم - مستشار أمني

مقالات أخرى للكاتب