Saturday 02/08/2014 Issue 15283 السبت 06 شوال 1435 العدد
02-08-2014

الخلافة أم الأنفال

الولاية العامة شأنها شأن عظيم. وهي مما لم يعرفها العرب قبل الإسلام، وهذه أحد أسباب عدم وجود حضارة لهم قبل محمد عليه الصلاة والسلام.

فالعرب أمةٌ تأبى التبعية فِطرة. (ولعل لهذا دور في مجيء الإسلام بالتحذير من العقاب والعذاب الأخروي، ما لم تأت به الشرائع السماوية الأخرى).

ولعل عدم انضباطية العرب ونفرتهم من التبعية لأحد، وقوة تنافسهم فيما بينهم على الرياسة والصدارة، هو من أسباب تشديد الإسلام في وجوب إقامة الولاية العامة. فلم يكن في قريش ولا في أهل يثرب - فضلاً عن غيرهم من العرب - شخص تُناط به مسئولية الولاية العامة.

وتغليظ الإسلام في التحذير من نقض البيعة للولاية العامة - كحديث «فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» - لم يكن عبثاً، فالعرب لا تحب الالتزام. فقد كانت قريش - وهي أشرف العرب - تنسأ الشهور ليستحلوا القتال في الأشهر الحرام، فيَغيروا على القبائل الآمنة، فتقتل رجالهم وتنهب نساءهم وأموالهم. (ولعل هذا بعض ما دفع برسولنا عليه الصلاة والسلام لعقد صلح الحديبية، فهو يعرف أن قريشا ومن معها من قبائل العرب لن يصبروا على الوفاء). وقد نقضت العرب عهد رسول الله وارتدت بمجرد موت الرسول عليه الصلاة والسلام. فاعادهم الصديق بسيف الله المسلول، خالد بن الوليد.

ولهذا جعل الرسول الخلافة في قريش حتى تستتب الدولة الإسلامية. فما كانت العرب آنذاك لتجتمع على غير قرشي. فقريش أشرف العرب ومنها النبي الذي اجتمعت عليه العرب ابتداء. فأما بعد أن استتبت دولة الإسلام، فالالتزام بهذا الحديث هو من عدم الفقه ومن ظلم الشريعة، حتى وأكاد أن أقول -مجازاً- أنه من التقول على الشرع. فحديث الخلافة في قريش هو من أحكام الوسائل، تزول ذريعته بزوال سببه، كما زالت أحكام الأنفال وغيرها بزوال أسبابها. فما مَنْعُ عبقري الأمة الفاروقُ الأنفالَ، وتعطيله لأحكام سورة عظيمة من القرآن (تأتي ضمن السبع الطوال)، إضافة إلى تركه لهدي النبي وصاحبه المتواتر في الغنائم، وإغضابه لجمع من كبار الصحابة في عدم أخذه بما درج عليه الرسول وخليفته من تطبيق أحكام سورة الأنفال، بأهون من عدم تنصيب قرشي خلافة المسلمين -على ما أفسدته الخلافة الأموية والعباسية والفاطمية في الدين والدنيا- من أجل حديث مفرد، واضح بالمنطق وبالتطبيق أنه من أحاديث أحكام الوسائل. فهو حكم وسيلة لحكم وسيلة لحكم وسيلة لحكم غاية. وأما التطبيق، فوحدة الولاية العامة لعموم المسلمين تحت رجل واحد لم تصبر أكثر من أربعة عقود، ولم تنضبط أبعد من جزيرة العرب. وهذا من إعجاز النبوة. فقد أتت النصوص الشرعية في التأكيد على وجوب الولاية العامة في أي مجتمع إسلامي، وليس في النصوص مُطلقاً لا من قريب ولا من بعيد ولا من فهم الصحابة ولا من فعلهم على ما يدل أو يشير إلى وجوب تحديدها بولاية عامة واحدة شاملة لجميع المجتمعات الإسلامية.

وأما حصول وحدة الولاية العامة على جميع المسلمين في بدايات الخلافة الراشدة فهذا أمر اجتماعي طبيعي، تمر به جميع الحضارات المدنية في بدايات توسعها، إضافة أنه كان امتداداً لعصر النبوة. وأما ما بعد ذلك، فقد أثبت التطبيق العملي لأربعة عشر قرناً استحالة ذلك. فلم تستقم قط - دون نزاع وفتن وخروج خلافة أو إمارة - ولاية عامة شملت جميع المسلمين إلا لأبي بكر وعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز. فقد تزامن خليفتان من كبار الصحابة ومن صغارهم في مرحلتين متتابعتين. فتزامن علي ثم الحسن مع معاوية رضي الله عنهم. كما تزامنت خلافة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ثمان سنوات مع خلافة مروان وابنه عبد الملك. وقد تزامنت لقرون خلافة العباسيين مع خلافة الأمويين في الأندلس، ولأكثر من قرنين من الزمن مع خلافة الأدارسة في المغرب، ومثلها مع خلافة الفاطميين التي امتدت من بلاد المغرب العربي حتى ضمت الحجاز بما فيه مكة والمدينة. وأما الممالك والإمارات فحدث عنها ولا حرج، وهي التي كان الفضل في الذود عن ثغور الإسلام واسترداد ما أضاعته الخلافة «القرشية» من بلاد المسلمين.

فغالب الفتوحات الإسلامية، حصلت في عهد ثلاثة خلفاء فقط. هم الفاروق وعبد الملك بن مروان وابنه الوليد. وما عدا ذلك فلم يكن عهد الخلافة ومناطق سيطرتها من بعد مقتل ذو النورين أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، إلا مسرحاً للحروب الداخلية وللفتن والمذابح الدموية المريعة. وما كانت سياساتها إلا سياسات إحياء لنزعات العنصرية حيناً والشعوبية حيناً آخر. وما كانت أيامها إلا أيام تفريط وتضييع لديار المسلمين، وما كانت حضارتهم إلا بناء للقصور وتفنناً في اقتناء الخمور والجواري والمغنين.

وأما حماية الثغور واسترجاع المفقود المُضيع، والعلوم -باستثناء عهد المأمون- فقد كان غالبه بفضل الممالك والإمارات من غير العرب. وما كان عدم انتساب هذه الممالك للخلافة لعدم جواز تعدد الخلفاء، فقد انتسب الأمويون والأدارسة والفاطميون للخلافة مع خلافة العباسيين، إنما منعهم من إعلان مسمى الخلافة عدم انتسابهم لقريش. وهذه هي السياسة التي استغلها الأمويون والعباسيون والفاطميون وغيرهم، التي عظمت من وجوب العمل بحديث مفرد من أحكام الوسائل، وأغمضت عن سنة الفاروق وتعطيله لأحكام سورة من السبع الطوال وخروجه عن هدي النبي وصاحبه.

إن دعوى الخلافة اليوم ما هي إلا شماعة يُعلق عليها بسطاء المسلمين تأخُرهم وضعفهم، ويسلون أنفسهم بها، بينما يستغلها الإسلام السياسي مطية لتحقيق أهدافه. وإن حال الخلفاء، باستثناء الصحابة منهم وعمر بن عبد العزيز، القوي منهم والضعيف لا يشهد إلا بصلاحية الخلافة للعصر الحديث. فقويهم سفاح شراب للدماء نهاب لأموال المسلمين، وضعيفهم خليع ليل مجون وفحش. فإلى متى نحرف تاريخنا بتجيير المحامد للخلافة.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب