Monday 04/08/2014 Issue 15285 الأثنين 08 شوال 1435 العدد
04-08-2014

مؤسسات اقتصادية في ثكنات عسكرية

طُلب من جندي روسي قبل انهيار الاتحاد السوفييتي أن يعطي تعريفاً للجندي والجنرال فقال: الجنرال هو ذلك الشخص الذي يتصدر الصفوف أيام السلم ويحتل المؤخرة أيام الحرب، والجندي عكس ذلك. قالوا له وكيف تعرف صف الضابط ؟ فقال صف الضابط يحتمي بمؤخرة الجندي ويحتمي الجنرال بمؤخرته. بعد أيام قليلة تم نقل الجندي إلى مؤسسة الاستخبارات السوفييتية لتعيينه محللاً استراتيجياً فيها بسبب النبوغ الذي احتوته أجوبته.

أظنه واحداً من أهم الأسئلة الدائرة في الفوضى العربية الشاملة أن نسأل: ما هو السر الأضخم والأعظم في سرعة انهيار الجيوش العربية النظامية أمام العصابات الإرهابية العشوائية؟

بالأمس استولت مجموعة من المغامرين الخارجين عن مشروع الدولة الوطنية على ثكنات الجيش في مدينة بنغازي الليبية. قناة الجزيرة تسميهم الثوار وقناة العربية تسميهم الإسلاميين، وهم يسمون أنفسهم أنصار الشريعة، والشعب الليبي لا يدري من هم ولا من أين أتوا وإلى أين هم ذاهبون بالوطن، وبالتالي ليس عنده أي تصنيف لهؤلاء.

قبل أسابيع انهار ما يسمى الجيش العراقي خلال ساعات بنفس الطريقة أمام خلطة غير متجانسة من المحاربين تسمي نفسها ثورة العشائر، وتسميها الحكومة المذهبية في بغداد مجموعة الظلاميين ويسميها الكرد داعش، وهذه الداعش تسمي نفسها الدولة الإسلامية فتقطع الرؤوس وتهجر السكان وتصلب المعارضين في الميادين باسم الإسلام. لا الجيش العراقي ولا الشعب العراقي بكل أديانه ومذاهبه وأعراقه يدري من هم هؤلاء ولا من أين أتوا ولا من جمعهم وسلحهم وإلى أين هم ذاهبون بالعراق وبسكان العراق من مسلمين وغير مسلمين.

في نفس التوقيت الذي انهار فيه الجيش العراقي انهار الجيش اليمني في معسكرات عمران على أبواب صنعاء أمام مجموعات قبلية بدائية تسمي نفسها أنصار الله، والإعلام العالمي يسميهم الحوثيون، والحكومة اليمنية تسميهم المتمردون، أما الشعب اليمني فلا يدري من أتى بهم ومن يقف خلف قوتهم المادية والعسكرية ليمزق بهم اليمن، وأغلب الظن أن هذه المجموعات القبلية نفسها، ما عدا بعض الرؤوس فيها لا تستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة.

العامل المشترك بين كل هذه المواجهات أنها جميعها حدثت في دول عربية ومن غير المحتمل إمكانية حدوثها خارج البلدان العربية، وأن الجيوش المدججة بالأسلحة هي التي تخسر دائماً أمام مجموعات بدائية عشوائية من المغامرين.

الشذوذ عن هذه القاعدة حدث في سورية، حيث ما زالت بقايا مما يسمى الجيش العربي السوري مستمرة في التدمير والقتل والاغتصاب، والسبب الجاهز للاستنتاج هو أن الذي يقاتل هناك كتائب طائفية ومذهبية قدمت من إيران ولبنان والعراق وليس من يقاتل أحد الجيوش العربية النظامية، وإلا لكان انهار منذ زمن طويل، مثله مثل سابقيه.

ماهي الزبدة إن كانت هناك زبدة، من هذه السردية عن انهزام الجيوش العربية بسرعات مذهلة أمام مجموعات بدائية عشوائية من المقاتلين؟ الزبدة تتلخص في استعراض بعض المسلمات عن واقع الجيوش العربية. المسلمات تقول إننا لو جمعنا أعداد الأفراد في كل الجيوش العربية، من جنود وصفوف ضباط وضباط، لحصلنا على أرقام بالملايين. بعد ذلك علينا أن نحصي أعداد المسدسات والذخائر والبنادق والرشاشات والمدافع والمدرعات والدبابات والصواريخ والطائرات الواقعة تحت تصرف هذه الجيوش، ولسوف نجد أنها تكفي لتسليح دول القارة الآسيوية بكاملها.

بما أن الدراسات الإحصائية سوف تقودنا إلى النظر في التكاليف، إذا يتوجب علينا، ولو كمحاولة، حصر الأموال التي استقطعت من لحوم الشعوب العربية منذ الخمسينيات حتى اليوم لصالح الجيوش القطرية، كرواتب وتمويل صفقات وبناء ثكنات وتفصيل بدلات وقبعات وبريهات وتلميع أوسمة ونياشين، إلى آخر التكاليف المنظورة وغير المنظورة. سوف نجد حتماً أن هذه المصاريف هي أهم الأسباب في فقر المواطن العربي وضياع جميع فرص التنمية من يديه.

يبقى التدريب على فنون القتال. أليست هذه جيوش تتدرب يومياً على ما هو مطلوب منها يوم يشتد النزال ويحمى الوطيس وتغطرف الحرائر ؟ لماذا إذاً تنهار هذه الجحافل المدربة خلال أيام قليلة وتسلم ثكناتها ومعداتها لقطعان المتمردين المتجمعين عشوائياً، ولا أحد يدري من جمعهم ولا من يخدمون، حتى أولئك الوعاظ والدعاة الذين يقنتون لهم في المساجد.

السبب الظاهر هو أن الجيوش العربية ليست جيوشا بالمعنى السائد، بقدر ماهي إحدى الوسائل البيروقراطية لطلب الرزق والهيلمان. بهذا المفهوم نستطيع أن نستنتج لماذا تحولت المؤسسات العسكرية العربية إلى اكبر مؤسسات اقتصادية.

أراهن، لو بحثنا في أهم الشخصيات العربية المستثمرة في العقار والاستيراد والتصدير والمقاولات العامة، على أننا سوف نجد عسكريين متقاعدين وآخرين ما زالوا في الخدمة، من بين أكثر وأكبر الشخصيات الاقتصادية عبر العالم العربي.

الانصراف إلى الاستثمار في الثروات يضعف الاهتمام باللياقة وفنون القتال عندما يأتي يوم النفير الوطني، ولكن حينئذ تبقى البركة في الشعوب.

ملاحظة للقراء الكرام .. بمناسبة إجازة الكاتب السنوية تحتجب هذه الزاوية من اليوم حتى السادس من شهر ذي القعدة الموافق الأول من سبتمبر 2014 م. نلتقي عندئذ على خير - إن شاء الله -.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب