Wednesday 06/08/2014 Issue 15287 الاربعاء 10 شوال 1435 العدد
06-08-2014

الملك سعود والمِشْراق

يقول الشاعر أبوتمام:

تعوَّدَ بسط الكفِّ حتى لو أنه

ثناها لقبضٍ لم تُجِبهُ أنامِلُهُ

ترَاه إذا ما جئته متهللا

كأنَّك تُعطيهِ الذي أنتَ آمِلُهُ

ولو لم يكن في كفه غيرُ رُوحِهِ

لجاد بها فليتقِّ اللهَ سائلهُ

هو البحر من أيّ النواحي أتيتَهُ

فلُجّتُهُ المعروفُ والجودُ ساحلُهُ

كأني بالشاعر الكبير أبي تمام, واقفاً في حضرة الملك سعود بقصره في الناصرية يلقي بين يديه هذه الأبيات التي تصف الجانب الأهم من شخصية هذا الرجل.. فقد أزاحت هذه المقطوعة السحرية ذلك الفاصل الزمني العتيق بين زمانه وعصر الشاعر الذي عاش فيه, فلم تمنع كل هذه القرون التي تفصل بين هذين الزمانين التلاؤم بين مرامي هذه الأبيات وشخصية الملك سعود, الرمز العربي الأصيل, الذي حوَّل معيشة الناس من الفقر إلى ترف العيش في ظل ظروف اقتصادية صعبة كانت تمر بها البلاد آنذاك, ومع كل ذلك, استطاع إنقاذ المملكة من أزمات سياسية واقتصادية صعبة كادت أن تعصف بها بعد الحرب العالمية الثانية, فأنشئت القوانين والقواعد والأنظمة التي تسير عليها المملكة حتى وقتنا الحاضر, ولم يتأت ذلك إلا برؤية اقتصادية وسياسية دقيقة, وبعيدة المدى.

يشكل تاريخ سعود بن عبدالعزيز -طيب الله ثراه- حقلاً خصباً للدراسة والبحث والتحليل, كيف لا وفي هذه الفترة التي حكم فيها تشكلت الملامح الرئيسة لبناء النهضة الحديثة للمملكة العربية السعودية, فأسست الأنظمة والقوانين المدنية والعسكرية, وأقيمت الوزارت و الهيئات المعنية بتسيير أمور البلد في مختلف المجالات وشتى الأصعدة.

الملك سعود بن عبدالعزيز الذي ولد في الخامس من شهر شوال العام 1319هـ الموافق الخامس عشر من شهر يناير العام 1902م, في دولة الكويت, وهو النجل الثاني من الذكور للملك عبدالعزيز, ووالدته الأميرة وضحى بنت سعود بن عرير, وقد حظي بعناية خاصة من قبل المؤسس, فكان حاضراً في كل مناسباته الخاصة, والعامة, وقد كلفه بمهام كبيرة منذ نعومة أظفاره, فنجح نجاحاً باهراً في كل ما أوكل إليه من تكاليف, فاستشعر الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أن شخصية ابنه سعود ملائمة تماماً للعرش, فهو صاحب نظرة ثاقبة, وقدرات خاصة ومواهب خارقة, وقد تصدر عناوين الصحف البريطانية لأمد, فهو الرجل الذي وحد أرض الجزيرة العربية ولم شتاتها بعد الفرقة, ليحول الخوف إلى الأمن, والتشرد إلى الوحدة, والاختلاف إلى الاتفاق, بمشيئة الله سبحانه وتعالى وبما وُهِب من إمكانيات دون غيره من البشر, فبعد توحيد المملكة العربية السعودية, وإطلاق هذا الاسم عليها, في 17من جمادى الأولى عام 1351هـ الموافق 23أيلول 1933م, صدر المرسوم الملكي من مجلس الشورى بجدة بمبايعة الأمير سعود ولياً للعهد في 16 من شهر محرم عام 1352هـ الموافق 11مايو1933م, وقد حظي هذا القرار الملكي بتأييد شعبي مذهل من الزعماء خارج المملكة, ومن قبل العلماء والأمراء وكافة أفراد الشعب, وبعد وفاة المؤسس -غفر الله له- في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول العام 1373هـ الموافق التاسع من شهر نوفمبر عام1953م, بويع الملك سعود ملكاً على المملكة العربية السعودية, ليكمل مسيرة النماء والتوحيد التي زرع جذورها صقر الجزيرة.

لقد عُرف الأمير سعود بشجاعته منذ بداياته الأولى فقد كان يتصدر الجنود في كافة الغزوات والسرايا, وقد فدى الملك عبدالعزيز بروحه عندما حاول بعض الخونة والعملاء للقوى الخارجية قتله في الحرم المكي, فسارع للدفاع عنه ولم يبال بالموت أو الخطر, فتلقى عدة طعنات كادت أن تودي بحياته, فكان هذا الموقف المهيب, والمخاطرة المصيرية بوجود الحرس وخَاصّة الملك, إلا أنه لم ينتظر من أحد الدفاع عن والده؛ ليفديه بكل شجاعة وإقدام, وهذه هي أخلاق الفرسان.

إن الحديث عن شجاعة الملك سعود متصل لدى عامة الناس, فحتى وقت قريب وكبار السن كثيراً ما يتسامرون بقصصه البطولية, فاستحضارهم لها دلالة على حبهم العميق له, فهو الرجل الذي فتح في كل قرية وحدة صحية, ومدرسة, وحسَّن الأوضاع المعيشية لكافة الناس, فنقلهم من الفقر إلى الغنى, وفي هذا السياق, يقول الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل رائد تحقيق الشعر العربي في شبه الجزيرة العربية في مقاله: (المِشْراق) وهو المجلس الشعبي الذي يتناول فيه كبار السن الأحاديث والأحاجي, في أيام الشتاء الباردة يبرز المشراق مجلساً شعبياً يتهادى فيه كبار السن الأحاديث والقصص ونوازل السنين وأيام الحروب والكوارث...

فالمشراق مجلس الأنس، فالشمس تهدي لمرتاديه الدعة والراحة وصفاء الذهن وهدوء البال، ومع صفاء الذهن تنشط الذاكرة وتستحضر الماضي فيتحول المشراق إلى مقام مقامات تُسَبكُ فيه بألفاظ انتقاها الموقف، وجمل تعاورتها الألسنة وأساليب اجْرَهَدَّ لها الخاطر واستهوتها النفوس، فالسالفة تولد الأخرى، والحادثة تذكر بالحادثة، ومجرى الحديث يوجهُ التاريخ ويصنع أساليب حديثة ولدها مجلس المشراق، فالتعبير الجاري يستحدث مهارات، ويولد قصصاً خيالية وأخرى واقعية، كما يستحدث خبراً طريفاً وحادثة عفا عليها الزمن فصيغت بأسلوب المشراق المطرب، حيث تهش له النفوس وتميل له الرؤوس، إنها أحاديث تنافس أحاديث السمر في الليلة المقمرة على كثيب ذي الرمة في مشارف الدهناء.

لقد التفت أبومحمد إلى أبي عبدالرحمن وقال: أتذكر موقفنا في السبلة عندما كنا نترقب خروج عبدالله العنقري واتجاهه إلى الجبيلات المقابلة متخذا جادة في بعول أهل الزلفي من كثرة ذهابه وإيابه، لقد كان الملك عبدالعزيز يرسل الشيخ العنقري لإقناع الخارجين عن طاعته بالطريق السوي، ومن كثرة خروج العنقري وعودته أصبحنا نترقب خروجه كل صباح، مع أنه يخرج في بعض الأيام وليس كل الأيام، ولكننا مللنا الانتظار فنتسلى بخروج الشيخ فنرقبه حتى يغيب عنا، لقد أصبحت جادة العنقري معلماً واضحاً في روضة السبلة يعرفها أصحاب المخيمات الذين ينتظرون مثلنا، لقد كان الانتظار مُملاً إلى درجة أننا نتمنى الحرب بما تحمل من أخطار، وفي ذات صباح والشمس في أول شروقها بدا لنا فارس على حصان أدهم، وكان يقف عند كل مخيم، فانتظرناه حتى اقترب منا فإذا هو سعود بن عبدالعزيز في هيئة المُشَمِّر قد عطف جانبي غترته على أذنيه وربط طرفيها على أعلى رأسه، وجواده يرفع يديه أحياناً فيعطف رأسه بالعنان فيهدأ ثم يستأنف الحركة، وأخيراً وقف الفارس بجانب مخيمنا، وقال: ليأخذ كل واحد سلاحه ويقف حتى يأتيكم الأمر بالتقدم، وكونوا صفاً، وليأخذ واحد منكم التمر ويمر به على الوقوف، ويأخذ رجل آخر الماء ويتبع صاحب التمر، فاستمعنا إلى أمره وامتثلناه، فوقفنا صفاً واحداً. وعرفنا أن الحرب قريبة وبعد ساعتين شاهدنا كوكبة من الفرسان سالكة جادة العنقري ومتجهة إلى (المحاجي) في الجبيلات، وبينما نحن مشغولون بالمنظر إذا بالأمر بالتقدم، فانطلقنا وغمرتنا الحرب بغبارها وأصواتها فانشغل كل واحد منا بنفسه.

لقد بدأت مبادرات وأفكار الأمير سعود التطويرية منذ عهد والده الملك عبدالعزيز, إبان تسنم الأمير ولاية العهد, حيث استشعر أن بناء الدولة القوية في مختلف المجالات لا يتأتى إلا عبر الأنظمة الدستورية والقضائية والاقتصادية الفعّالة, فبعد الحرب العالمية الثانية أصيب الاقتصاد العالمي بكساد مخيف, والمملكة جزء من العالم لابد وأن تتأثر بذلك, فبلغ هذا الكساد ذروته عام 1369هـ، فباشر الأمير سعود عملية البحث عن حلولٍ لهذه الأزمة, ليستعين بالخبراء والاقتصاديين من الدول الكبرى صاحبة التجارب الريادية في هذه المجالات, فلابد من تجنيب المملكة ويلات هذه الأزمة الاقتصادية, والخروج منها بأقل قدر من الخسائر, فوضع خطة اقتصادية متقنة لذلك, ورفعها إلى مقام الملك عبدالعزيز, مشفوعة بحزمة من الاقتراحات بنيت على آراء متعددة, من قبل الخبراء الأجانب, ومن هذه الاقتراحات ربط الريال بالدولار وإنشاء مؤسسة النقد العربي السعودي عام 1371هـ, فنجحت الخطط وتجاوزت المملكة الأزمة بسلام, لتستمر مسيرة الإصلاح والنماء التي يقودها الأمير سعود بتوجيهات والده الملك عبدالعزيز -رحمهما الله-, ومن أبرز هذه الإصلاحات التي قادها الأمير سعود في عهد والده؛ إعادة تنظيم إدارة الأمن العام, بالإضافة إلى عدة تعيينات في الدوائر الحكومية, كما أنه أول من طور قوانين المحاكم الشرعية, وعرفت هذه الحزمة الإيجابية بإصلاحات ولي العهد وكانت عام 1372هـ.

لم تغب عن الأمير سعود مسألة مراقبة المال العام وتقنين مصارفه بدقة, فقد دعم وزارة المالية في هذا المجال, بإعطائها صلاحيات أكثر تأثيراً, فقام بتأسيس مجلس خاص للشؤون الاقتصادية وإدارتها, كما أنشأ مديرية عامة لشؤون البترول والمعادن, ووجه بإقامة إدارة للأشغال العامة تهدف لإصلاح الأراضي, وحفر الآبار الارتوازية, كما أسس إدارة عامة للجمارك, وكان من أبرز هذه الإصلاحات سن قانون لمجلس الشورى, وزيادة عدد أعضائه, بالإضافة إلى توجيهه بشراء أسطول حديث من الطائرات, ورفع كفاءة القوات المسلحة, ووجه بترميم الحرم النبوي الشريف.. فما يميز الأمير سعود شخصيته المنفتحة, فكان لا يتردد في أخذ المشورة من خبراء الداخل أوالخارج إذا كان هذا يصب في الصالح العام لهذا البلد.

من أول الأعمال التي شرع بها الملك سعود حين توليه زمام الأمور بعد وفاة والده الملك عبدالعزيز, توسعة الحرمين الشريفين في مكة المكرمة, والمدينة المنورة, أما على الصعيد العسكري فأنشئت كلية الملك عبدالعزيز الحربية بتاريخ 9 جمادى الأولى 1375هـ, كما تم تأسيس أول مصنع للأسلحة في المملكة بمحافظة الخرج بتاريخ 2شوال 1374هـ, وفي العاشر من شهر رمضان عام 1374هـ صدر المرسوم الملكي بتشكيل الحرس الوطني في كافة أنحاء المملكة, أما على الصعيد الخارجي فقد أسس الملك سعود لعلاقات متينة مع مختلف دول العالم وبالأخص الدول الكبرى, تزامن ذلك بقرار مجلس الوزراء ذي الرقم ثلاثة وخمسين وتاريخ 24 ربيع الأول 1374هـ بتأسيس نظام وزارة الخارجية المكون من ستة وخمسين مادة.

كما أن العدالة لم تغب عن ذهن الملك سعود فقد وجه عام 1357هـ بإنشاء ديوان للمظالم, ليكون ارتباطه مباشرة بالملك؛ الذي كان دائم العطف على شعبه, ليصدر قانوناً يختص بالعمل والعمال يوم 25 من ذي القعدة عام 1376هـ يرمي للحفاظ على حقوق العامل, وتبصير صاحب العمل بما له وما عليه, ليعقب ذلك تأسيس لوائح خاصة لكل الوزارات.

كما أن المرسوم ملكي برقم 19 في الثامن عشر من شهر ربيع الأول العام 1382هـ الذي يقضي بإنشاء مؤسسة عامة تلحق بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية باسم « المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي «, أسهم في حل الأوضاع المعيشية الصعبة التي كان يمر بها بعض المواطنين, وبعد ذلك صدر مرسوم آخر في 12رجب1383هـ يقضي بصرف رواتب اقتصادية تصرف وفق نظام الضمان الاجتماعي وتمول من الضرائب والرسوم بجميع أنواعها وقد بلغت مخصصاتها في أول ميزانية لها عام 1382 -1383هـ 2.500.00 ريال.

لقد كان أغلب الناس إبان عهد الملك سعود يقتاتون على الزراعة, وقد استشعر ذلك ليوجه بإنشاء وزارة للزراعة عام 1373هـ، فصرفت الإعانات الزراعية للمواطنين وأعانتهم على قوتهم.

من أبرز إنجازات الملك سعود بن عبدالعزيز تأسيس الأنظمة والقوانين الإعلامية في المملكة, حيث أنشئ مشروع جدة للإذاعة بمرسوم ملكي في شهر ذي القعدة عام 1374هـ, لتحوي هذه المديرية شقين: الأول: الإذاعة, والثاني: الصحافة والنشر, وقد استشعر الملك سعود أهمية الإعلام الخارجي ورسم صورة ذهنية مشرقة عن المملكة في مختلف دول العالم, فأمر بإنشاء مكاتب صحفية في السفارات والمفوضيات مع إصدار مجموعة من النشرات والمجلات والكتب, بالإضافة إلى مكتبة أرشيف, وقسم خاص للتصوير والدعاية والإعلام, وتم وضع اللوائح الخاصة بتنظيم الطباعة والنشر.

لقد استقرت صورة الملك سعود بكامل تفاصيلها أذهان محبيه, فلم تزل عالقة في وجدان كل من عايش عصره الزاهر.

يقال إن الفن شعور قبل أن يكون سلوكاً فلو طلبت من أحد كبار السن تصوير الملك سعود, لأطلعك صورة جميلة له, فهو يصفها وكأنه ينظر إليها في لوحة أمامه, ملئت بهيئته وهيبته ووقاره وهو يعتلي ذلك الخيل الأبيض, متلثما بغترته المشهورة, وبشخصيته التاريخية, وهو يسير ليتفقد أحوال الجند في معركة السبله كما يروي أبوعبدالرحمن -رحمه الله-, وكم من تلك الروايات الشفهية توارت تحت الثرى بموت من يحملها وهي لم تدون, فهي دعوة لأصحاب ولصاحبات السمو أبناء وبنات الملك سعود -وفقهم الله- أن يستثمروا تلك الروايات الشفهية عن والدهم وأن تحفظ وتستثمر قبل أن يغتالها عامل الزمن, مع إعجابي بتلك الجهود الجبارة التي يبذلها الأمراء والأميرات لحفظ تاريخ والدهم الذي أحبه الشعب فلم ينسى فضله ولو بعد حين, فالمهمة صعبة ومعقدة لحفظ هذا التراث المتفرق بين الصدور.

إن شخصية الملك سعود بما تحمله من فروسية, وحب, وكرم, وجود, وفكر وعطاء وتنمية, جديرة بدراسات أكاديمية خاصة, وهي فرصة لطلاب الماجستير والدكتوراه في الجامعات لدراسة هذه الشخصية الفذة, فمازال البلد يعيش على تلك الرؤية التنموية الفذة التي أسسها الملك سعود رحمه الله, واستمرت في عهد إخوانه البررة الملوك: فيصل وخالد وفهد -رحمهم الله- وصولاً إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله.

Alfaisal411@hotmail.com - تويتر: alfaisalmohmmed@

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود

مقالات أخرى للكاتب