Wednesday 06/08/2014 Issue 15287 الاربعاء 10 شوال 1435 العدد
06-08-2014

غزة حليف المستقبل الوحيد في هذه اللحظة

هل يبيح الانحياز ضد فصيل من فصائل المقاومة تمجيد الاستسلام؟

هل يبيح العجز عن المقاومة إدانة المستعدين لدفع أثمانها من أرواحهم؟

هل يبيح الاختلاف على مواقف الحاضر تجهيل الأجيال بالتاريخ؟

هل يبيح الالتفاف النهائي على الربيع العربي التحالف مع الشيطان؟

هل كانت دولة الاحتلال الإسرائيلي بفتح مقابر جماعية للأطفال على شاطئ غزة تفعل شيئًا غير إعادة ما اعتادته من عادات العدوان في سلسلة تجاربها اللا متناهية على التفنن في تقتيل الأطفال والتهام لحومهم الطرية حية على الهواء؟

هل كان العدو المحتل على مدى ستين عامًا يجرأ على توسيع حيِّز جرائمه بإقامة مذابح متنقِّلة يحرِّكها بين ملاعب أطفال فلسطين وبين مدارسهم وبين فراش نومهم لو أنه وجد من يكف يده عن الولوغ في دم الطفولة أو من يحاسبه على جرائم الحرب البواح التي يرتكبها أمام الكاميرات؟

أسئلة لامتحان تاريخي لم يستطع أن ينجح فيه أحد لا من الجيوش النظامية ولا من الحكام العرب ولا من القوى العالميَّة لأكثر من نصف قرن. وللكشف عن تكرار الفشل بعمد أو تواطؤ أو إهمال في التصدي لأيِّ من تلك الأسئلة على بدهيتها لا نحتاج لأكثر من تقليب صفحات أو صفعات التاريخ القريب ناهيك عن التاريخ البعيد.

«حصل أطفال فلسطين على شهادات نجاحهم المدرسية، وبزهو ككلِّ أطفال العالم ذهبوا في نزهة تجدِّد نشاطهم بعد عام دراسي ليلعبوا ويستعيدوا حريات الطفولة في فضاء إجازة الصيف، إلا أنهَّم على خلاف أطفال العالم الآمنين، كانوا على موعد مع خطافات القتل الإسرائيلي تلاحق براءتهم على الشاطئ لتقنص عصافير اللعب والمرح فتفرط أجنحتهم، تقتلع عيونهم وتقطع أطرافهم الطريّة أمام كاميرات العالم.

لا أدري كيف شاهدت وشاهد العالم معي، مشهد الطفلة الراكضة على رمل الشاطئ بغزة، وقد انغرست شظايا سلاح العداء الإسرائيلي في خاصرتها، وانقضت ذئاب الرعب تعلج طفولتها وطفولة سواها من أطفال فلسطين، وكيف استطاع أيّ منا بعد ذلك الاستسلام لسلطان النوم أو التفكير ولو في الحلم، أن هناك إمكانية لأن ننعم بصيف هادئ في هذه المنطقة وفي جيرة ذلك الجوار الجائر».

لا أظن أن أيّ من القراء قد تنتابه ذرة شك بأن المقطع أعلاه من هذا المقال لم يكتب إلا في هذه اللحظة المضرجة بدم أطفال غزة وهو لا يزال يقطر بما تبقى في وجوهنا من ماء الحياء تجاه الجرائم البربريَّة التي يرتكبها جيش الإرهاب المنظم لدولة الاحتلال الإسرائيلي. غير أن الحقيقة التي قد تكون صادمة للبعض هي أن هذا المقطع الواقع بين قوسين أعلاه هو مقتطف من مقال سبق أن كتبته عن مشهد تقتيل إسرائيل لأطفال غزة ولبنان عام 2006م أيّ قبل ثماني سنوات.

ولو أن مقالات كتبتها أو كتبها سواي من كتاب الرأيّ في جرائم إسرائيل منذ فتحت أجيال عريضة من كتّاب الرأي والشعراء عيونها على محنة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين لوجدنا أن هناك عشرات الكتابات التي تبدو وكأنها كتبت للتو في التعبير عن وحشية الاحتلال، بما يكشف عن الطّبيعة المنهجية للإرهاب المنظم الذي تمارسه دولة الاحتلال العسكرية على شعب فلسطين قديمًا وحديثًا، ماضيًا وحاضرًا بتلك الوتيرة من الضراوة والهمجية، بالقدر الذي يكشف فيه عن استمرار العجز العربي بتلك الوتيرة من الجمود، بل والتردي في مواجهة ذلك العدوان طوعًا أو كرهًا.

استمرارية الإرهاب الصهيوني والنمو المطرد للرعب

مقابل استمرارية العجز في المواجهة والمضي في تعزيز العجز والدفاع عنه:

في مطلع الأسبوع الثاني لحرب العدو الإسرائيلي على غزة ظهر على الصفحة الأولى من «النيويورك تايمز» الأمريكية صورة مكبرة لأطفال فلسطين جاؤوا ليلعبوا على شاطئ البحر وهو منفذ غزة الوحيد على الحياة خارج سجن الاحتلال فجاءتهم في طلعاتها غير المفاجئة الطائرات الحربية لتتسلى باصطيادهم. وعلى الرغم من أن هذه الصورة صعقت العالم بقسوتها خاصة مع تناقلها السريع عبر منافذ التواصل الاجتماعي على خلاف ما كان يجري قبل الثورة التقنية الأخيرة التي لم تعد فيها المعلومات والصُّور طي الصحف، فإنَّ هذه الومضة المرعبة في حقيقتها ليست إلا صورة مصغرة جداً في لقطة جامدة لمشهد الرعب المتكرر والمتحرك في كلِّ اتجاه من قطاع غازة المحاصرة بالعدو من كل الجهات بما فيه معبر رفح. فمشهد ملاحقة أطفال أبرياء على شاطئ مكشوف بالطائرات الحربية مشهد تكرر عبر طفولة جميع الأجيال التي عاشت فداحة الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين منذ أقدمت جحافل البرابرة على سرقة أرضهم.

وإذا كانت أعداد متزايدة في العالم من نجوم هوليود إلى طلاب الجامعات قد ضجت من وحشية هذه الصورة والصُّور المشابهة لها في ظاهرة احتجاج عالمي غير مسبوقة على جرائم الاحتلال الإسرائيلي في حق أهل غزة بما فضحته منافذ الإعلام الجديد، فإنَّ العالم العربي إلا إذا كان ليس لجرح بميت ايلام لا يعدو أن يعيش في هذه المجازر البواح لأهل غزة استجراحًا يوميًّا لمنهج الاحتلال في ذبح الأطفال أحياء على رؤوس الأشهاد. فما أرى أمامي من تقطيع لأوردتي وحلق لشعري وانتهاك لجوارحي وحرق لريشي ليس إلا إعادة لشريط متواصل من حياة عاشها الشباب العربي جيلاً بعد جيل في جرح يبدو نرجسيًا وما بنرجسي اسمه القضية الفلسطينيَّة. أما المفارقة المخجلة فليس فقط العجز في دفع هذا العدوان بل تجاوز ذلك إلى الدفاع عن ذلك العجز وتزينه.

إن ندبات جرائم الحروب الإسرائيليَّة السابقة ووشمها المسموم على لحم الأحياء العرب، ممن حملوا أو لم يحملوا أوزار حلم فلسطين الحرة، تقول: إن إسرائيل لا تحتاج إلى ذريعة المقاومة لتقوم باقتراف جريمة الحرب في غزة اليوم. فطبيعة هذا الكيان العدوانية لا تدعه يعيش دون الإقتيات على الحرب بذرائع أو من دون ذرائع، بل إن المقاومة لمن عندهم ضعف في فهم مجرى التحولات التاريخية العميقة أو يعانون من نقص منسوب الكرامة في الدم هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تقف في وجه تلك الطّبيعة العدوانية. ولهذا فليس من حق أيّ ممن يجلس في الظل أن يطلب من الجميع أن يلعنوا بارقة الضوء لنصاب جميعًا بمزيد من مهانة الظلام.

ولعلنا حين نقرأ المقاطع التالية لقصيدة محمود درويش الطويلة في غزة ونرى مدارس الأطفال وقد تحولت إلى مسالخ لا تشبه إلا مسالخ الأضحيات قد نخجل ولو قليلاً أن يُؤدِّي بنا العجز عن مشاركة المقاومة إلى تمجيد الاستسلام:

تحيط خاصرتها بالألغام.. وتنفجر.. لا هو موت.. ولا هو انتحار

إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة

منذ.. سنوات ولحم غزة يتطاير شظايا قذائف

لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غزة في الدفاع عن بقائها وفي استنزاف العدو.

ومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلة الزمن.. إلا في غزة.

لأن غزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء.. لأن غزة جزيرة کلما انفجرت، وهي لا تکف عن الانفجار.

خدشت وجه العدو وکسرت أحلامه وصدته عن الرضا بالزمن.

لأن الزمن في غزة شيء آخر..

لأن الزمن في غزة ليس عنصرًا محايدًا.

)))

لأن القيم في غزة تختلف.. تختلف.. تختلف

القيمة الوحيدة للإنسان المحتل هي مدى مقاومته للاحتلال… هذه هي المنافسة الوحيدة هناك.

.... إنها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتها وتسکب دمها.

من هنا يحبها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء يصل إلى الغيرة والخوف أحيانًا. لأن غزة هي الدرس الوحشي والنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء على السواء.

من هنا تکون غزة تجارة خاسرة للسماسرة ومن هنا تکون کنزًا معنويًّا وأخلاقيًا لا يقدر لکل العرب.

ومن جمال غزة أن أصواتنا لا تصل إليها لا شيء يشغلها، لا شيء يدير قبضتها عن وجه العدو.

قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها وقد برمونها في البحر أو الرمل أو الدم ولکنها لن تکرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم.

لا هو موت ولا هو انتحار ولکنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة.

Fowziyaat@hotmail.com

Twitter: F@abukhalid

مقالات أخرى للكاتب