Friday 08/08/2014 Issue 15289 الجمعة 12 شوال 1435 العدد
08-08-2014

رجال صدقوا: الليث بن سعد

كان الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي بالولاء أبو الحارث, إماماً لأهل مصر في عصره, في الحديث والفقه, يقول ابن تغري بردي: كان كبير الديار المصرية ورئيسها وأمير من بها في عصره، بحيث إن القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته, أصله من خراسان.

ولد في قلقشندة بمصر عام 94هـ, وتوفي بالقاهرة عام 175هـ, وكان ثرياً وكريماً مشهوراً بالجود, مع العلم والفقه, يقول الإمام الشافعي رحمه الله: الليث بن سعد أفقه من مالك, إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وقد تحدث عنه القلقشندي في صبح الأعشى؛ لأنه من بلده، وعن هذه الحالة يقول ابن خلكان: كان ابن وهب تقرأ عليه مسائل الليث, فمرت به مسألة فقال رجل من الغرباء, أحسن والله الليث, كأنّه كان يسمع مالكاً يجيب فيجيب هو, فقال ابن وهب للرجل: بل كان مالك يسمع الليث يجيب, فيجيب هو, والله الذي لا إله إلا هو, ما رأينا أحداً قط أفقه من الليث.

وكان الليث من الكرماء النبلاء الأجواد, ويقال: إن دخله كل سنة خمسة آلاف دينار، يفرقها في الصلات وغيرها، يقول منصور بن عمار: أتيت الليث فأعطاني ألف دينار، وقال: صن بهذه الحكمة التي آتاك الله تعالى, ورأى ابن خلكان في بعض المجاميع, أن الليث كان حنفي المذهب, وأنه ولي قضاء مصر, وأن الإمام مالكاً أهدى إليه صينية فيها تمر, فأعادها مملوءة ذهباً, وكان يتخذ لأصحابه الفالوذج, ويعمل فيه الدنانير؛ ليحصل لكل من أكل كثيراً, من الذهب أكثر من صاحبه.

وقال ابن وهب: كان الليث بن سعد يصل مالكاً بمائة دينار في كل سنة, فكتب إليه مالك بن أنس: إن علي ديناً فبعث إليه بخمسمائة دينار, وكتب إليه مالك: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها, فأحب أن تبعث إليّ شيئاً من عصفر, فبعث إليه ثلاثين حملاً من عصفر, فصبغ لابنته, وباع منه بخمسمائة دينار, وبقي عنده فضله.

يقول محمد بن رمح: كان دخل الليث بن سعد, في كل سنة ثمانين ألف دينار, وما أوجب الله عليه زكاة درهم قط.

وجاءت امرأة إلى الليث بن سعد فقالت: يا أبا الحارث, إن ابناً لي عليل, واشتهى عسلاً, فقال: يا غلام أعطها مرطاً من عسل, والمرط عشرون ومائة رطل, وقال غيره: سألت المرأة مناً من عسل, فأمر لها بزق, فقال كاتبه له: إنما سألت مناً فقال إنها سألتني على قدرها, فأعطيتها على قدر السعة التي أعطاني الله.

ويقول رجاء أبو قتيبة: قفلنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية, وكان معه ثلاث سفائن: سفينة فيها مطبخه, وسفينة فيها عياله, وسفينة فيها أضيافه.

قال أبو نعيم في كتابه الحلية الذي أورد فيه كثيراً من أخبار الليث ومواقفه, حدثنا أبو محمد بن حيان, ثم ذكر سنده إلى محمد بن موسى الصائغ, قال سمعت منصور بن عمار يقول: كان الليث بن سعد إذا تكلم بمصر أحد قفاه, فتكلمت في مسجد الجامع يوماً, فإذا رجلان قد دخلا من باب المسجد, فوقفا على الحلقة فقالا: من المتكلم؟ فأشاروا إليّ فقالا: أجب أبا الحارث الليث, فقمت وأنا أقول: ألقى من لدن هكذا, فلما دخلت على الليث سلمت, فقال لي: أنت المتكلم في المسجد؟ قلت: نعم رحمك الله. فقال لي: اجلس ورد علي الكلام الذي تكلمت به, فأخذت في ذلك المجلس بعينه, فرق الشيخ وبكى, وسُرِّي عنّي, وأخذت في صفة الجنة والنار, فبكى الشيخ حتى رحمته, ثم قال لي بيده, اسكت.. فتوقفت عن الكلام. فقال لي: ما اسمك؟ قلت: منصور. قال: ابن من؟ قلت: ابن عمار. قال: أنت أبو السري؟ قلت نعم. قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك. ثم قال: يا جارية. فجاءت فوقفت بين يديه. فقال لها: جيئني بكيس كذا وكذا, فجاءت بكيس فيه ألف دينار, فقال: يا أبا السري, خذ هذه إليك, وصُنْ هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولا تمدحنّ أحداً من المخلوقين, بعد مدحك لرب العالمين, ولك في كل سنة مثلها.

قلت: رحمك الله, إنّ الله قد أنعم علي وأحسن, قال: لا ترد علي شيئاً أصلك به فقبضتها وخرجت. قال: لا تبطئ عليّ. فلما كان الجمعة الثانية أتيته. فقال لي: أذكر شيئاً, فأخذت في مجلس لي, فتكلمت, فبكى الشيخ وكثر بكاؤه, فلما أردت أن أقوم, قال: انظر في ما ثنيِّ الوسادة, فإذا خمسمائة دينار, فقلت: رحمك الله عهدي بالأمس, قال: لا ترد عليّ شيئاً أصلك به, متى أراك؟ قلت: الجمعة الأخرى, قال: كأنك فتت عضوا من أعضائي, فلما كانت الجمعة الأخرى أتيته مودِّعاً. فقال لي: خذ في شيء أذكرك به, فتكلمت فبكى الشيخ وكثر بكاؤه, ثم قال: يا منصور انظر ما في ثنيِّ الوسادة, فإذا ثلاثمائة دينار, قال: اعُدَّها للحج, ثم قال: يا جارية هاتي ثياب إحرام, إحرام منصور فجاءت بإزار فيه أربعون ثوباً. قلت: رحمك الله, اكتفي بثوبين, فقال لي: أنت رجل كريم, فيصحبك قوم, فأعطهم.. وقال للجارية التي تحمل الثياب معه وهذه الجارية لك.

كان منصور بن عمار مشهورا بالوعظ وطريقته تبكي الحاضرين, وله مواقف وحكايات, ومن مواقفه اللطيفة التي تدل على علمه وسعة صدره وطريقته في معالجة الأمر, أنه لما خرج إلى البصرة, ومنها إلى بغداد حل مشكلة حصلت بين الرشيد وزوجته ابنة عمه زبيدة, وتفصيلها, يقول لؤلؤ الخادم كما ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه خادم الرشيد: جرى بين هارون الرشيد وبين ابنة عمه زبيدة مناظرة وملاحاة في شيء من الأشياء، فقال هارون في عرض كلامه لها: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم واغتما جميعاً بهذه اليمين، ونزل بهما مصيبة لموضع ابنة عمه منه، فجمع الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين، فلم يجدوا منها مخرجاً، ثم كتب إلى سائر البلدان من عمله أن تحمل إليه الفقهاء من بلدانهم، فلما اجتمعوا جلس لهم، وأدخلوا عليه، وكنت واقفاً بين يديه لأمر إن حدث يأمرني بما شاء فيه، فسألهم عن يمينه، وكنت المعبر عنه، وهل له منها مخلص، فأجابه الفقهاء بأجوبة مختلفة، وكان فيهم الليث بن سعد فيمن أشخص من مصر, وهو جالس في آخر المجلس لم يتكلم بشيء، وهارون يراعي الفقهاء واحداً واحداً، فقال: بقي ذلك الشيخ في آخر المجلس لم يتكلم بشيء، فقلت له: إنّ أمير المؤمنين يقول لك: ما لك لا تتكلّم كما تكلّم أصحابك؟ فقال: قد سمع أمير المؤمنين قول الفقهاء، وفيه مقنع، فقال لي هارون: قل له إنّ أمير المؤمنين يقول: لو أردنا ذلك سمعنا من فقهائنا ولم نشخصكم من بلدانكم، ولَمَا أحضرت هذا المجلس، فقال الليث: يُخْلِي أمير المؤمنين مجلسه إن أراد أن يسمع كلامي في ذلك، فانصرف من كان بمجلس أمير المؤمنين من الفقهاء والناس، ثم قال: تكلم.. فقال: يدنيني أمير المؤمنين؟ فقال: ليس بالحضرة إلا هذا الغلام، وليس عليك منه عين، فقال الليث يا أمير المؤمنين أتكلّم على الأمان، وعلى طرح التعامل والهيبة والطاعة لي من أمير المؤمنين في جميع ما آمر به؟ قال هارون: لك ذلك. قال الليث: يدعو أمير المؤمنين بمصحف جامع, فأمر أمير المؤمنين بالمصحف فأحضر, فقال الليث: يأخذه أمير المؤمنين فيتصفّحه حتّى يصل إلى سورة الرحمان, فأخذ هارون المصحف وتصفّحه حتّى وصل إلى سورة الرحمان. فقال الليث: يقرأ أمير المؤمنين, قال الخادم فشقّ ذلك على أمير المؤمنين كيف يأمره الليث بالأوامر الواحد تلو الآخر ...

فقرأ أمير المؤمنين فلما بلغ: (ولمن خاف مقام ربه جنتان). قال الليث: قف يا أمير المؤمنين هاهنا. فوقف. قال الليث: يقول أمير المؤمنين: والله. قال الخادم، فاشتدّ ذلك على الرشيد وعليَّ, فقال له هارون: ما هذا؟ قال الليث: يا أمير المؤمنين على هذا وقع الشرط، فنكس أمير المؤمنين رأسه - وكانت زبيدة في بيت مسبل عليه ستر قريب من المجلس، تسمع الخطاب - ثم رفع هارون رأسه إليه فقال: والله, فقال الليث: الذي لا إله إلا هو الرحمان الرحيم, إلى أن بلغ آخر اليمين, ثم قال: إنَّك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله؟ قال هارون: إني أخاف مقام الله.

فقال الليث: يا أمير المؤمنين، فهي جنتان وليست بجنة واحدة كما ذكر الله تعالى في كتابه، فسمعت التصفيق والفرح من خلف الستر من زبيدة وجواريها, وقال هارون: أحسنت والله، بارك الله فيك، ثم أمر بالجوائز والخلع لليث بن سعد، ثم قال هارون: يا شيخ، اختر ما شئت، وسل ما شئت تجب فيه, فقال الليث: يا أمير المؤمنين، وهذا الخادم الواقف على رأسك؟ فقال: وهذا الخادم, فقال الليث: يا أمير المؤمنين، والضياع التي لك بمصر ولابنة عمّك أكون عليها، وتسلّم إليّ لأنظر في أمورها, قال هارون: بل نقطعك إقطاعا، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أريد من هذا شيئا، بل تكون في يدي لأمير المؤمنين، فلا يجري علي حيف العمال، وأعزّ بذلك، فقال هارون: لك ذلك، وأمر أن يكتب له ويسجّل بما قال، وخرج من بين يدي أمير المؤمنين بجميع الجوائز والخلع والخادم، وأمرت زبيدة له بضعف ما أمر به الرشيد، فحمل إليه، واستأذن في الرجوع إلى مصر، فحمل مكرّمًا.

وكان هارون الرشيد قد سأله قائلا: يا ليث, ما صلاح بلدكم؟ فأجابه قائلاً يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا بإجراء النيل, وإصلاح أميرها, ومن رأس العين يأتي الكدر فإذا صفا رأس العين, صفت السواقي, فقال: صدقت يا أبا الحارث.

رحم الله الليث بن سعد, فقد سمع صوتٌ بعد دفنه: يقول:

ذهبت الليث فلا ليث لكم

ومضى العلم قريبا وقبر

mshuwaier@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب