رواية (القوس والفراشة) للأشعري .. الحاسة السادسة

عن (المركز الثقافي العربي) بالدار البيضاء صدرت رواية (القوس والفراشة) للشاعر والكاتب المغربي / محمد الأشعري في طبعتها الثالثة عام 2011م وهي تلك الرواية الحاصلة على جائزة (البوكر) العربية للعام نفسه مناصفة مع الروائية السعودية المعروفة / رجاء عالم عن روايتها (طوق الحمام).

ولقد تعودت- أنا كقارئ ومنذ أن كانت علاقتي بالقراءة والاطلاع – أن أتخلص من أي مؤثرات خارجية، أو آراء مسبقة أوأي أحكام جاهزة حول أي عمل إبداعي يقع بين يدي..

وذلك قبيل قراءتي لهذا العمل أو ذاك كي لا أتأثر بوجهات نظر من سبقوني في الكتابة عن هذا العمل دون أن أشعر بذلك، في حين أنني لا أرى بأساً في ذلك بعد إتمامي لقراءته، أي أنني أقرأ أولاً ثم أقارن بين ما كتبته أنا وبين ما كتبه الآخرون عن العمل نفسه ثانياً.

وهذا كله في حالة قراءتي لعمل بهدف كتابتي عنه فيما بعد، أما إن كنت قارئاً فقط فالأمر يختلف.

وفيما يخص رواية (القوس والفراشة) فقد انتهجت الطريقة نفسها، إذ استبعدت من ذهني تماماً كونها رواية فائزة بجائزة عالمية مرموقة,لكي أقرأها بتجرد ذهني خال من أي انطباعات سابقة تلقيتها عمن قرأوها قبلي، أو كتبوا عنها سواء أكانت انطباعات إيجابية أم سلبية، وخاصة عند إعلان فوزها بالجائزة المذكورة. ثم إن فوز رواية ما بجائزة عالمية أو عربية, أو على أي صعيد كان مسألة أخرى قد لا تهمني كثيراً – أنا كقارئ – وإن كان لها بالطبع مدلول إيجابي واضح على وصول أدبنا العربي إلى شريحة واسعة من المجتمعات الدولية بكافة فئاتها وأطيافها والتي يهمنا كثيراً التواصل معها أدبياً وثقافياً وفكرياً... هذا كله من ناحية, أما الناحية الأخرى فهي تخصني شخصياً بصفتي قارئاً يروق لي دائما أن أطلع على الإبداع الإنساني بشكل عام مهما كانت لغته وجنسيه وهويته وجغرافيته، وذلك حسب مقدرتي وإمكانياتي، وما يسمح به وقتي، وظروفي الشخصية.

أي أنني – بطبيعتي الشخصية – لست قارئاً (انتخابيا) ينتخب ما يقرأه برؤية معينة, بحيث يهمه كثيراً ألاَّ يقرأ غير تلك الأعمال الفائزة بجوائز عالمية أو دولية، أو تلك التي تثير حولها بعض وسائل الأعمال ضجة إعلامية ما بعد نشرها, مهما كانت مادتها وموضوعها، فيدفعه ذلك بنوع من الفضول أو المزاجية لقراءتها.

وإنما يروق لي أن أقرأ أي عمل أدبي مطبوع أو منشور حتى لو كان لأسماء مغمورة إعلامياً بالرغم من نجاحها على المستوى الأدبي أو الإبداعي، وبغض النظر عن أي اعتبارات أخرى تحددها الجوائز او التكريم المادي والمعنوي وما شابه ذلك.

وعندما قرأت رواية (القوس والفراشة) كغيري من الكثيرين ممن قرأوها، وبعيدا عن مسألة فوزها بجائزة دولية من عدمه وجدتني لا أتمالك نفسي حيال لغتها المبهرة والمدهشة والمذهلة في آن واحد، بحيث أخذتني منذ صفحتها الأولى وحتى آخر صفحة فيها إلى عوالم ذات آفاق (بوهيمية) في أجوائها وسلوكيات شخصياتها وتصرفاتها، وأساليب معيشتها، ومدى واقعيتها من خياليتها, لدرجة أنني كنت غير قادر على استيعاب هذا التدفق المهول لأحداث هذه الرواية وانماط شخصياتها وزمانها ومكانها، وتراسلها وتداخلها، بل وتشابكها مع بعضها على نحو شبيه بمن يلقي أحجارا على دفعات متقطعة ببركة مياه راكدة، بحيث تتكون عدة دوائر في مركز الإلقاء لتتباعد قليلاً حتى تضمحل بعيداً عن المركز، لكنه سرعان ما تتكون دوائر جديدة أخرى بإلقاء حجر جديد آخر. وهكذا الحال، حتى يبدو للقارئ أن إلقاء مزيد من الأحجار في تلك البركة متوقع الحدوث في أي وقت، ولن يتوقف, وأن تولد دوائر مائية جديدة ناتجة أساسا عن ارتطام كل حجر بسطحها المائي متوقع ولن ينتهي.

وتبدأ مأساة الشخصية المحورية في هذه الرواية في فقدانها لحاسة الشم التي تمثل لها أهمية حيوية بالغة الأثر لكونها إحدى (الحواس الخمس) التي لا يمكن لأي إنسان أن يستغني عنها، وإلا كان هناك خلل (فسيولوجي) أو وظيفي في خلقته الطبيعية كجنس بشري لابد وأن يشم بأنفه، مثلما أنه يرى أو يبصر بعينيه، ويسمع بأُذنيه، ويتذوق وينطق ويتكلم بلسانه، ويلمس ويحس بأعضاء جسده.

ومعنى هذا أن المصاب بهذا الخلل (الفسيولوجي) لابد أن يطور من مقدراته الحسية الأخرى وطاقته الذهنية والنفسية محاولاً التغلب على قصوره الحسي الذي جعله يعيش بأربع حواس فقط بخلاف غيره من البشر الطبيعيين الأسوياء الذين يتمتعون بالحواس الخمس المعروفة كاملة ليكون ذلك تعويضا له عما فقده !! وهذا حتماً سيذكرنا بمقولة: (كل ذي عاهة جبار).

وهذا ما وصفه لنا محمد الأشعري:

(قبل أن أفقد حاسة الشم، كنت أتعرف على تفاصيل هامة من حياة كل امرأة أُصادفها, فقط من خليط الروائح التي تصلني منها، والتي أستطيع التمييز بين التباساتها ومستوياتها بدقة متناهية. كنت أعرف مثلاً على وجه التقريب سنها ولون شعرها، وأستطيع أن أحدس حتى الأطباق الأخيرة التي هيأتها. .. ). (1).

وتتعدد شخصيات الرواية، وصفاتها و(كارزميتها) وتختلف بتعددها الخطوط العريضة التي يمكن أن نميز من خلالها بين كل شخصية وأخرى على حدة، وعلى نحو يجعلنا – أحياناً – غير قادرين على تمييزها أو تتبعها ومعرفة دورها الرئيسي في السياق العام للحدث السردي برمته.

فهناك شخصيات رئيسية مثل: شخصية (الفرسيوي) و(أحمد مجد) سمسار العقارات و(إبراهيم الخياطي) المحامي و(بهية) زوجة الراوي وغيرها، وهناك شخصيات ثانوية وأخرى هامشية، في حين أن هناك أيضاً شخصيات تغيب وتحضر – أحياناً – بشكل لا يفسر لنا الكاتب سبب حضورها ولا سبب غيابها بهذا الشكل المحير والمفاجئ.

ومن أغرب هذه الشخصيات في مسألة الحضور والغياب شخصية ( ياسين) الابن الوحيد للراوي الذي ذكر لنا الراوي نفسه أنه قرر أن (يذهب إلى أفغانستان، ويجاهد مع مجاهديها إلى أن يلقى الله. وقد لقيه فعلاً في الأيام الأولى، وفي ظروف غامضة لم أستطع استجلاءها ولما يبلغ العشرين من عمره). (2) فمثل هذه الشخصية كانت تتأرجح في حضورها وغيابها طوال امتداد صفحات الرواية البالغ عددها نحو 332 صفحة.

ومع ورود ما يؤكد موت (ياسين) واستشهاده في أكثر من موضع من الرواية، إلا أن القارئ يتفاجأ أحياناً بظهوره حياً على قيد الحياة في مواضع أخرى منها، وخاصة حين يتعرض والده (الراوي) لمشكلة نفسية أو قلق أو توتر أو عارض من ظروف محرجة، أو مأزق صعب, مما يجعل (الأب) في مثل هذه الحالات يستحضر بذهنه ومشاعره وجود (ابنه) فيخاطبه ويناجيه باسمه، وكأنه لا يزال حياً, لعله يشعره بالأمان والاطمئنان، ويستعين به على قسوة الحياة، وظروفها المحيطة.

لغة (الأشعري) في عمله هذا لغة راقية جداً, وفائقة الروعة، ولا تتعالى على قارئها بحيث توجد بينه وبينها أي فجوة أو فراغ لغوي أو روحي أو نفسي، أو أي نوع من القطيعة المعرفية التي تشعره بأي (تقزم) حسي أو معنوي إزاء امتداداتها العملاقة السابحة في فضاءات لا حدود لها من الواقعية والتخييل والترميز ,واليقظة والحلم و(اللاوعي) والتذكر والاسترجاع والتهويم والتلميح والإيماء والإيحاء، وتداخل كل هذه المعطيات وقيمها الفنية مع بعضها مجتمعة بقوالب فنية ذات لغة آسرة وشفافة وأنيقة يستمتع بها القارئ، ويتلذذ بها حتى وإن كان يتمتع بالمستوى الأدنى من الاطلاع والثقافة والمعرفة.

ولعل (الأشعري) استفاد من تجربته، وخبرته الطويلة كشاعر منذ بداية حياته الأدبية، إذ عرفه القارئ العربي شاعراً صدرت له عدة دواوين شعرية على مدى الثلاثين سنة الماضية قبل أن يعرفه روائياً أو كاتباً. ولذلك فقد ظهر الشاعر في شخصه ظهوراً واضحاً في عمله هذا إذ طغت لغته الشعرية على لغته النثرية. وهذا ما أكسبها لغة جديدة في رؤيتها تجمع في قوالبها وفنياتها ما بين الشعري والنثري في آن واحد, بحيث كانت أقرب ما يكون لما يمكن وصفه بـ (شعرنة السرد)، متخطية الخطابية والتقريرية والإخبارية والانشائية السردية التي وقع فيها كثير من سابقي الأشعري ولاحقيه في أعمالهم.

ومعنى هذا- ببساطة- أن الأشعري استثمر الخطاب الشعري وتقنياته وتمكن بنجاح من توظيفها في البناء السردي.

** ** **

(1) الرواية، ص11، ص12.

(2) الرواية، ص 15.

- حمد حميد الرشيدي