12-08-2014

يَا قَوْمَنا أَجِيْبُوا النَّذِيْرَ العُرْيَان

الملك عبدالله بن عبدالعزيز، أصلح الله شأنه كله، وكفاه ما يهمه. بهذا العمر المديد، وبتلك التجارب الثرية، والطويلة، وبمكانته المتميزة بين قادة العالم، يعرف متى يصطلي بحر جرائر أمته، ومتى ينذرها، ومتى يعتزلها، ويلوذ بالصمت.

ومكانة المملكة بمقدساتها، وثرواتها، وأعماقها [الاستراتيجية]، وجبهتها الداخلية المتلاحمة، وأشقائها، وأصدقائها، وحلفائها الأوفياء، وسياستها المتوازنة، والملتزمة، والمتعالقة مع المنظومة العالمية، تمنح خطابها أهميةً عالمية، وتثير رؤيتُها فضولَ الساسة، والمحلِّلين: قبولاً، أو رفضاً، أو تحفظاً.

وهي إذ تملك الأهمية من أطرافها، فإنها تعرف قَدَرها وقَدْرَها. ومن ثم لا تدخل اللزز إلا في الوقت المناسب.

وفي ظل هذه السِّمات، لا يتملكها جنون العظمة، ولا تخدعها غطرسة التفوق، بحيث تستبطن قول الفرزدق:

[تَرَى النَّاس ما سِرْنا يسيرون خلفنا *** وإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفوا]

وهي في الوقت نفسه، لا تجهل إمكانياتها، ومكانتها. ولا تتردد في استثمارها عندما يجد الجد. وخير شاهد على التألق، والتفوق، والحضور الفاعل ما تنطوي عليه صفحاتها في التاريخ العربي الحديث.

وحين تُفْضِي برؤيتها في اللحظات الحاسمة، والظروف الحرجة، تدرك تعارض المصالح، واختلاف المشارب، وخطورة التكتلات، وعفن الطائفية المتعصبة.

وهي على يقين بأن أيَّ حدث مهم، أو شخصية عظيمة، تختلف حولها الآراء، إلى حد التناقض. ومؤشرات الأهمية، والعبقرية تكمن في حجم الاختلاف.

والتاريخ الفكري والحضاري حافلٌ بمثل هذه التناقضات. والفارغون من العلم، والتجارب، يظنون أن شرط العظمة يكمن في التوفر على التعظيم المتفق عليه، والاستجابة الجمعية، والفورية من المستهدفين، وأن مجرد التردد قادح في مصداقيتها. وذلك ظنهم الذي همشهم، وقلل من أهميتهم.

[العقاد] في عبقرياته المثيرة، أشار إلى عظمة الخليفة الراشد [علي بن أبي طالب] رضي الله عنه، وقرَّر أن من مؤكدات العبقرية والعظمة عنده التناقض الصارخ في المواقف منه.

فـ[الخوارج] كرهوا علياً، وتقربوا إلى الله بقتله. و[الروافض] ضلوا بتأليهه، وخادعوا بدعوى مشايعته. وبقي عظيماً عبقرياً، لا يماري في تميزه، وتفوقه، وتألقه إلا جاهل.

وبلادنا، وقادتُنا يتعرضون للتأييد تارة، وللمعارضة تارة أخرى. ولا يأخذهم الغرور في الأولى، ولا ينتابهم الإحباط في الثانية.

والأمة العربية والإسلامية، والعالم بأسره في ظل تلك الترديات مطالبون بمراجعة [الأَجِنْدَةِ]، وتمحيص المواقف، واستبدال [الأسطوانات المشروخة].

وصيحة النذير ربما تكون الصيحة الأخيرة. والفرص لا تطرق الأبواب أكثر من مرة واحدة.

إنها صرخة [النذير العريان]. قال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلي ومَثَلُ ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً. فقال: رأيتُ الجيشَ بِعَيْنيَّ، وإنِّي أنا [النذير العريان]، فالنجاء النجاء. فأطاعته طائفةٌ، فأْدلجُوا على مَهَلِهم، فنجوا. وكَذَّبته طائفة، فَصَبَّحهم الجَيْش، فاْجتاحَهم. وأنا (النذير العريان)». أو كما قال بأبي هو وأمي.

وأصل وصف النذير بـ[العريان] أن الرجل إذا أراد إنذار قومه، وإعلامهم بما يوجب المخافة، نزع ثوبه وأشار به إليهم، إذا كان بعيداً منهم؛ ليخبرهم بما دهمهم. وأكثر ما يفعل هذا ربيئة القوم، وطليعتهم، ورقيبهم.

وخادم الحرمين الشريفين هو الربيئة، والطليعة، والرقيب لشعبه، وأمته. وكلمته تنبض بالخوف، وشِدَّة الشفقة.

لقد اشتملت صيحته التحذيرية على أشواط دلالية، يأخذ بعضها برقاب بعض. إنها تفند الأحوال، وتُقَوِّم المواقف، وتكشف الزيوف، وتعري الخداع، وتستنهض الهمم، وتحذر من العواقب، وتراهن على النتائج، وتدين الافتراء، وتلجم المغرضين، وتتحدى المخادعين، وتصحح المفاهيم، وتحمل المسؤولية، وتُشهد على التبليغ، وتدعو إلى كلمة سواء، تنهي زمن التبعية والتيه، وترفع عن الشعوب البريئة جرائر الظلم، ونتائج العبث. هذه الكلمة التي جاءت على قدر، ضربت أهدافاً محورية بسهم واحد.

- فهل من مدكر؟

لقد يُسِّرت الموعظة في اللحظات الحاسمة، وبَرِئَتْ الذمة من العواقب الوخيمة، التي ترقب الأمة العربية والإسلامية.

والرائد الذي لا يكذب أهله يدرك أن هناك من يشكك في مواقف المملكة من [ظاهرة الإرهاب]، ومن [قضية فلسطين]، حتى لقد ألْصِق الإرهاب بالوهابية. ولا أظن البلاغة العربية، بكل ما أوتيت من بيان وفصاحة بقادرة على إقناع من ينكر ضوء الشمس في رابعة النهار:-

[ولَيْس يَصِحُّ فِي الأذْهان شَيْءٌ *** إذا احتاج النهارُ إلى دليل]

وكم تنكر العين المرمودة الضوء، وينكر الفمُ السقيمُ طعمَ الماء.

والكلمة الموقوتة جاءت لتحقق هدفين:

- المعذرة فيما لو ليم الساكت على سكوته.

- المحاولة الأخيرة للهداية.

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا. قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.

وكيف لا تُبْرِئ المملكة ذِمَّتها على لسان قائدها، وهي تُشَاهِد دولاً محورية تحترق، وكأنها قلاع من ورق. نجد ذلك في [سوريا] و[العراق] و[ليبيا] و [اليمن] و[لبنان] و[فلسطين].

وفي دول ثانوية، تحوم حول الحمى، وتوشك أن تقع فيه. {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}.

فهل نظر المستهدفون لهذه الفتن العمياء نظرة تأمل، واعتبار، واتخذوا حذرهم، ونفروا ثباتاً، أو نفروا جميعاً، لتدارك الأمر، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأموال والأنفس والثمرات، والخلوص من الخوف والجوع والقتل العشوائي؟ أم أن الجميع في غَيِّهم يعمهون.

لقد قالت المملكة كلمتها على لسان قائدها في اللحظات الحاسمة. ولربما يكون الْهَمُّ الأكبر في ثنايا الكلمة استعادة سمعة الإسلام المدنسة من [الإسلامويين] أنفسهم، الذين أعادوا [القرمطية] جذعة.

الإسلام بكل تسامحه، وإنسانيته، وتحضره، وتكريمه لبني آدم يُغتال بأيدٍ تدعي نصرته، وحاكميته. ووسائل الإعلام العالمية توثق الوحشية، والعنف، والهمجية، للحيلولة دون دخول الناس في دين الله أفواجاً.

لقد طَرَحت المملكة ثلاثة مشاريع حضارية: [الحوار] و[التقارب] و[مكافحة الإرهاب] سعياً وراء تجنيب الأمتين العربية والإسلامية مضلات الفتن، وتمكين الدعاة من التبليغ، وتقديم الأسوة الحسنة. ولكن الأعداء يتفانون في إجهاض تلك المشاريع الحضارية الإنسانية، التي تُعَدُّ الخيار الأول للدعوة الإسلامية.

والأنكى من ذلك افتراء الكذب على [سلفية المملكة] المستنيرة المعتدلة، وعَدُّها من حواضن التطرف.

- فهل بعد هذه المرافعة الحكيمة من مزيد؟

لقد قطع الملك بكلمته قول كل خطيب، وأجهض كل ادعاء.

ولما كان الوضع العربي والإسلامي على مشارف الانهيار، وجب أن تُسْمع الكلمة بآذان واعية، وأن تُسْتقبل بقلوب صافية؛ ولاسيما أننا أمام دول فقدت مثمناتها، وإنسانها، واجتاحتها الثورات، والمظاهرات، والانتفاضات، وظلت رهينة الفوضى القاتلة، والفراغ الدستوري الفادح. وأمام دول أنهكتها المغامرات المرتجلة، مع ما تتوافر عليه من أراضٍ خصبة، وأنهار متدفقة، وكفاءات بشرية مدربة، ومتعلمة.

وأمام دول خنقتها الطائفية، ودمَّرها حكم الأقلية، وقضى على هيبتها ومكانتها تفرق الكلمة، واختلال الوحدة الفكرية، والإقليمية، والعرقية.

وأمام دول هيأت نفسها للمتاجرة بكفاءاتها، وإمكانياتها، لتنفيذ اللعب السياسية القذرة. ففي كل يوم لها شعار، وفي كل ساعة لها دثار. تمسي قومية، وتصبح حزبية، وهي فيما بين هذا وذاك تدعو إلى الوحدة تارة، وإلى القطرية تارة أخرى، وكل شيء عندها ممكن، وتحت الطلب.

وعلى المراقب المشفق، والمُقَوِّم العدل، أن يتأملا واقع الأمة العربية، ثم يُكَحِّلا عينَيْهما بما هو قائم في المملكة، من أمن وارف، وامتثال لأمر الله، على مراد الله، ورخاء عام، واستقرار شامل، وتلاحم بين القيادة والأمة، ثم ليقطع باختيار أهدى السبيلين.

لقد نَاشَدَتْ الكلمة دول العالم مبادرة الأوضاع، وتدارك الأمر، قبل فوات الأوان. ولكن غطرسة القوة أعمت دول الاستكبار، وأصَمَّتها عما يجري في مشرقنا العربي المأزوم من الإرهاب الدولي، والطائفي، والحزبي. كما استفحلت عندها عبودية المادة. ولقد يَمْتَدُّ عندها زمن الصمت، حتى لا يكون باستطاعتها احتواء الموقف.

إن حساباتها الخاطئة تقوم على انتظار تآكل المصطرعين، وإنهاك قواهم؛ لتضمن الهيمنة. وما دار بخلدها أن الإبطاء كفيل بطغيان ثقافة العنف، وصراع الحضارات، ولغة السلاح.

والراكنون إلى اللعب السياسية التي تُحَوِّل الطريدة إلى متردية ونطيحة، والمستخفون بصراع المصالح لا يَعْبؤون بمثل هذه المصائر الموجعة. ولو أن دول الاستكبار عقلت لَسَعَتْ إلى تهدئة الأمور؛ فالحروب تضر بالمنتصر قبل المنهزم، وتطول البعيد قبل القريب: [وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم].

والمملكة على لسان قائدها، تريد الخير للعالم، وليست لها أطماع، وليست بحاجة إلى مساعدات [لوجستية]. إنها غنية بإيمانها، وإنسانها، وثرائها، ومقدساتها.

فهل يُطاعُ لقصير أمر؟ {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ}.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب