15-08-2014

هيئة الإذاعة والتلفزيون من الداخل.. 365 يوماً من البحث عن الرؤية

الزمان، رمضان 1434هـ.. الوقت، التاسعة مساء.. المكان، منزل أحد الأعزاء على نفسي الذي وجه لي دعوة للقاء معالي رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون الأستاذ عبد الرحمن الهزاع. الغرض من اللقاء، مناقشة الانضمام لفريق العمل في الهيئة، نائبا للرئيس لشؤون التلفزيون..

أوجست خيفة. لكن أمام دعوة صاحبي الغالية، ونداء الإعلام السعودي وتجشم رئيس الهيئة لقائي خارج مكتبه، لم أتردد في قبول الدعوة. وقربت ساعة الصفر. كانت كل تفاصيل الرأي والرأي المقابل واضحة للطرفين كليهما، فالعلاقة المهنية والإنسانية بمعالي الرئيس عميقة، ولذلك لم يطل اللقاء كثيرا، فليس ثمة ما يدعو لكثير من الحوار والنقاش.. أن أعمل أو لا أعمل.. كان هو المحور الوحيد المطروح.. توافقنا.. بعد دقائق.. وفي فم كلٍّ منا ماء. فالمؤسسة الرسمية شحيحة في فضاءاتها، والخدمة الجامعية سيدة المهن (في نظري على الأقل)، واتفقنا على عام واحد بنظام الإعارة، دون شرط أو قيد، لنرى بعده ما الله به عليم. حينذاك، بدأ (العد).. ولم يكن قد ظهر أتصاعديا أم تنازليا، لكن رحلة الـ (365) يوما الأولى من العمل في الهيئة كانت عمليا قد بدأت.

أيام قليلات.. لأجد نفسي في مكتبي.. محاطا بكتلة ضخمة من الأوراق ومن ورائها يتوافد الناس فرادى وجماعات للسلام.. فأرقب في أعين البعض ترحيبا، وفي أعين آخرين حيرة وتساؤلات، وتيها هنا وهناك من آخرين.. كنت أعرف كثيرين منهم ضيفا في برامج قنواتهم، لكن الأمس أمر.. واليوم أمر غيره.

لم يمهلني التلفزيون لأفكر أو أتأمل أو أحدد شيئاً من الأولويات.. فسرعان ما جرفني الركام المهني والوظيفي والبيروقراطي الممتد لنصف قرن.. وما أعجل ما فرض الكرسي عليّ أن أكون مرشدا وظيفيا، وموجها اجتماعيا، ومحللا نفسيا، وناصحا، ومجادلا، وصامتا، ومتحدثا، وغير ذلك كثير.. لم يكن من المتيسر أن أعرف للوهلة الأولى ما الذي يريده الموظفون مني تماما؟ وكيف يمكنني التوفيق بين تقاليدهم الوظيفية، وثقافة العمل المترسخة لديهم، ومتطلبات صناعة الإعلام كما أعرفها؟.. وكيف لي أن أكسب ثقتهم وولاءهم؟.. لكن تلك الأمور كلها قد تحققت في تسارع دراماتيكي أثار عجبي.. فلم يمضِ سوى أيام قليلات حتى شعرنا أننا جسد واحد.. وارتفعت كثيرا الثقة المتبادلة بيننا.. ربما ساعد في ذلك، بعد توفيق الله تعالى، نقاء معادنهم، وما اتبعته معهم من مناهج الاحترام الكامل لذواتهم ولخبراتهم، والوضوح والشفافية والمصداقية والمهنية قدر ما استطعت.. أو أن ذلك ما نقله إليّ بعضهم في نهاية العام.. كما امتدت تلك البيئة الإيجابية لطبيعة العلاقة مع رئيس الهيئة الذي اتسم بالكثير من المعرفة والخبرة والدراية بتفاصيل الأمور، وبشخصية اجتماعية لبقة حصيفة.. وكان محل ثقتي في منحي الفرصة للعمل مع زملائي بالقدر والشكل الذي نريد.. وكان سمّاعا لنا.. يضيف دوما تفاصيل مهمة لما ننقله إليه.. ففرض عليّ ذلك أن أبادله احتراما باحترام.. وأن لا أجعله يوما من النادمين.. فصار ذلك بحمد الله..

كانت تلك هي مؤشرات لحظات البدء.. فقد مضى من العام أيام.. فاستبشرت بعام حافل من الإنجازات الوطنية المهمة في مجال العمل التلفزيوني الرسمي.. فكم كنت أتطلع لتلفزيوننا الرسمي أن يحقق المعادلة الصعبة في صناعة الإعلام.. بادرت بتصريح تناقلته الصحافة، بأننا لا نستهدف منافسة أيّ من القنوات التلفزيونية. وسرعان ما أقض ذلك التصريح هجيع المنتجين السعوديين فاجتمعوا لمناقشة هذا الرأي القادم، وزارني أحد قيادييهم صبيحة اليوم التالي لاستيضاح الأمر.. وبعد حوار مهني طويل، غادرني راضيا مستبشرا بالمفهوم الذي سقته له من (اللامنافسة).. فنحن في التلفزيون لن ننافس أحدا في أسلوبه ورؤيته للعمل التلفزيوني، لكننا نشارك كل القنوات بحضورنا البرامجي.. وعلينا استقطاب الجماهير بما نملكه (نحن) من محددات شكل ومحتوى التلفزيون.. دون النظر لأشكال ومحتويات الآخرين.. نعم هي معادلة صعبة.. لكنها قدر الإعلام السعودي.. ورسالته.. وغايته.. في خدمة المقاصد الوطنية الكلية.

وبقدر رضاي عن رضاه، أوجست خيفة أخرى. وقادني هذا الموقف المهني لاستيضاح أمور شتى.. فللبيئة معادلاتها.. ولا بد من بذل كثير من الجهد ليمكن للتلفزيون السعودي تحقيق تلك المعادلة.. بدأنا عملا دؤوبا لمواصلة الجهد في تطوير التلفزيون.. وكنت أقول دوما لكثيرين ممن حولي: ليس من بين زملائي في قيادات التلفزيون من تمنيت لو أنه ليس من بينهم.. فقد كانوا جميعا تواقين للتطوير، حمالين للعديد من الأمنيات والمقارنات، مطواعين للكثير من المحاولات الجادة.. وضعنا سويا تصورات للخطط البرامجية للمرحلة القادمة، ولدعم الكفاءات المهنية العاملة.. ولتطويرالتجهيزات وأنظمة التسجيل والبث.. عقدنا جملة من حلقات النقاش.. منها اثنتا عشرة حلقة نقاش شاركنا فيها نخب من الكفاءات الوطنية من المختصين من خارج الهيئة.. كنا نعمل بالنهار.. ونعقد الحلقات في المساء.. وسجلنا هموما عدة لا بد من مواجهتها.. ومشاكل كبرى لا بد من حلها.. وتحديات متعددة ليس من استيعابها بد.. ووضعنا بعض بوادر أمل.. تشاركنا في كل ذلك.. على مستوى القنوات.. والتسويق والإعلان.. والقطاعات.. والمناطق.. وخرجنا بخلاصات رؤى مهمة جدا.. وتم بناء الهياكل الجديدة الطموحة لكافة القنوات.. وتم تصميم مشروعات وأنظمة داخلية لرقابة الجودة على الشاشة.. ولتطوير البرامج الحوارية.. ولتقنين نظام التعاون.. وللإنتاج المشترك مع مؤسسات المجتمع.. ولجودة مظهر المذيعين والمذيعات.. ولإدارة طلبات الإنتاج الخاص وتقويم العروض آليا، وغير ذلك كثير..

أنهينا ذلك كله.. وأدركنا معه أن القدرة التمويلية للهيئة ضئيلة جدا.. مقارنة بأي صناعة تلفزيونية مماثلة.. والناس الغائبون عن الحقيقة يتحدثون في وسائل الإعلام عن ميزانية مليارية.. نعم مليارا ريال تقريبا ميزانية الهيئة، لكن الذي لا يعرفه كثيرون، أن 8% منها فقط للإنتاج البرامجي.. ولكافة القنوات السعودية أيضا.. فكم هائل من موظفي الهيئة وتجهيزات بنيتها التحتية.. يلتهم النسب الأضخم من الميزانية، مرتبات ومقرات عمل، وتجهيزات، وصيانة، وتشغيل.. مع كل ما نتج عن ذلك من تداعيات ورتابة على الأداء الوظيفي والفني والمهني وعلى والرقابة الإدارية والتقويم.

كانت الأشهر الستة الأولى قد مضت.. ليبدأ الاختبار الحقيقي لقدرة الهيئة على تحقيق تطلعات الناس.. الناس العاملين فيها.. والناس المستهلكين لموادها.. والناس القائدين لها.. والناس أولي الأمر من حولها ومن فوقها.. فقد تم استيعاب كل ذلك في ما أُعِد من رؤى وتصورات.. تم رفعها لمعالي رئيس الهيئة وأبدى دعمه وتأييده لجل ما وصله منها.. وتمت مخاطبة قطاعات الاختصاص في الهيئة بشأن موضوعات أخرى.

يومها.. توقفت عن التفكير.. لم أعد أعبأ كثيرا بالرؤى والتصورات.. فلدينا منها الكثير.. نحتاج الآن فقط، لتجريب قدرة الهيئة على التنفيذ. وهنا.. بدأ الاختبار الحقيقي لكل تفاصيل العمل في الهيئة.. بأنظمتها.. وثقافة عملها.. وإمكاناتها... فظهرت بوضوح مثبطات الإجراءات الرسمية المتقادمة تنخر في كل محاولة للتغيير والإنجاز.. وبرزت الكثير من التعقيدات.. بالقدر الذي لا يتسق وصناعة الإعلام المعاصر.. وبدأت بيئة وثقافة التنظيمات المالية والإدارية الرسمية تجر للوراء كل محاولة للوثب للأمام.. فأوجست خيفة ثالثة.

قد لا تكون تلك المشكلات والمثبطات في ذات الهيئة كما بدا لي.. لكنه النظام المالي والإداري الذي تعمل الهيئة وفقا له.. أو هكذا سمعتهم يقولون.. مع شيء من تقاليد وعادات ليس لها أن تبيد.

مضت أيام الشهور الأخيرة في تمرين ذهني وجسدي أجمل ما فيه أنه يذكّر بمدرّس البدنية في الأيام الخوالي.. وهو يصيح في الطابور الصباحي (مكانك.. سر) .. وفي اليوم (364) تشكلت الرؤية.. لا بد من قوانين وتشريعات جديدة تسن عاجلا، دون انتظار حتى للنظام المالي والإداري الجديد للهيئة، ويستوعبها النظام حين صدوره. لقد ترهل الكادر البشري كثيرا، فينبغي أن يُمنح مجلس إدارة الهيئة صلاحيات كاملة ومطلقة للإحالة على التقاعد من شاء من منسوبي الهيئة لعلل وظيفية يقتنع المجلس بها. كما يجب أن يتمتع المجلس بصلاحيات مباشرة وقطعية لمنح المكافأة الذهبية اختياريا للراغبين من منسوبي الهيئة مغادرتها ممن يرى المجلس منحهم هذا الحق. ولا بد من امتلاك المجلس لصلاحيات إجازة التنظيمات التي تحكم عمل الهيئة في كل مجال تبدو الحاجة فيه للتنظيم. من هنا يمكن السيطرة على (كم) العاملين لوضعه في الحدود المطلوبة وتعهده بما يلزم من التدريب والتأهيل والرقابة والتقويم. وحيث يعاني الإنتاج من شح موارد التمويل ونقص مكافآت من يكلفون بالإنتاج، وبيروقراطية متقادمة في نظام الانتدابات الذي يمكن أن يصلح لأي شيء غير المهن الإعلامية، فلا بد من آلية يقرها مجلس الإدارة تكون مرجعا للصرف على الإنتاج بعيدا عن كل ما له علاقة بالثقافة الراهنة، ومتسقا مع طبيعة الإنتاج الإعلامي المعاصر. وحيث تلقي الوظيفة الرسمية بظلالها الوارفة على موظفي الهيئة، فيجب أن تنتهي هذه المرحلة. فلا منتجا إعلاميا مهنيا طموحا، بوظيفة رعوية. فيجب منح مجلس الإدارة ورئيس الهيئة ومساعديه ومديري القنوات والقطاعات صلاحيات محددة في منح حوافز مرنة وتطبيق زواجر حاسمة يقرها مجلس الإدارة. كما يجب اتباع سياسة ترشيد لمقرات وفروع الهيئة، وتحويل فوري لمخصصاتها المالية لدعم الكفاءات البشرية العاملة وتطوير البنى الفنية للإنتاج والبث. ولأن الإعلام مهنة غالية الثمن، فلا بد من امتلاك الهيئة لقدرات تمويلية عالية للكفاءات البشرية التي تستقطبها دون سقف أعلى غير سقف السوق، إن أريد لها أن تكون حاضرة بالشكل اللائق مهنيا في السوق.وكذلك الحال بالنسبة للإنتاج التلفزيوني، وشراء الحقوق الرياضية ونحوها. فالسوق لا يعمل بالمتوالية الرسمية الراهنة للهيئة.

وتبقى السمعة المهنية هاجسا كبيرا، وهنا يجب الفصل نهائيا بين مقرات العمل المكتبي اليومي، ومقرات الإنتاج والبث، بحيث يكون الدخول لمقرات الإنتاج والبث محرما على غير منسوبي تلك القطاعات. وتكون مقرات العمل الإداري معزولة هي الأخرى عن جماهير ذوي المصالح الإدارية والمالية من المتعاملين مع الهيئة، إلا عبر كادر من ذوي التأهيل العالي في استقبال المراجعين يكونون حلقة وصل بين الهيئة والعالم الخارجي، فتقف الاختراقات الإدارية والتسريبات الورقية، وإذا بقي منها بواق كفل التعامل معها النظام الصارم للزواجر الذي يقره مجلس الإدارة. ومن ضرورات السمعة المهنية الجيدة امتلاك الهيئة لكامل قرار إنتاجوبث المواد والبرامج والنشرات الإخبارية بشكل قاطع، فلا وجاهة لأحد في ذلك من خارج الهيئة، كائنا من كان، ليبقى القرار مهنيا بشكل كامل، وعلى الجميع تقدير المصلحة العامة وتفهم هذا الأمر.

عند هذه النقطة حل اليوم (365) من العام.. وحال الحول.. وظهر أن لا حول ولا قوة.. ووجد القادم من خارج الهيئة نفسه بين السندان والمطرقة، وأدرك أن رؤاه ومقاصده قد سارت في ركب وواد آخر.. فآثر العودة للجامعة مظفرا بانتصار وحيد على الوظيفة الإدارية الرسمية.. وهو الهرب منها. كثير من الأماني.. شيء جميل. لكن الأماني لا تقود للنجاح. الهيئة تحتاج مد يدٍ من عطاء.. ويدٍ من صلاحيات كاملة ونافذة.. ويدٍ من استقلالية قرار. الهيئة تحتاج إقراراً بأن الإعلام صناعة مختلفة.. لينتج عن هذا الإقرار المنح.. كل المنح.. لكل ما يجعل الإعلام السعودي الإذاعي والتلفزيوني بالمستوى المنشود وفق رؤية ناضجة واعدة، وليس مجرد أمنيات..

كان الله في عونكِ يا هيئة الإذاعة والتلفزيون.. وكان الله في عونك يا معالي الرئيس.. المثقل بكل تلك التراكمات والثقافات.. وفي عون مساعديك وكافة منسوبي الهيئة.. كم تعملون.. وكم تتعبون.. وكم تتمنون.. وكم أتمنى معكم أن تدركوا ما تتمنونه .. لا تيأسوا .. إنه قدركم.. وإنه ابتلاؤكم.. وتالله إنه لابتلاء عظيم.. أما أنا.. فسآوي إلى ركن شديد.. وأدعو ربي.. إنه كان بي حفيا.

alhumoodmail@yahoo.com

أستاذ الإعلام المشارك بكلية الإعلام والاتصال - أستاذ كرسي اليونسكو للإعلام المجتمعي

مقالات أخرى للكاتب