15-08-2014

الشريعة ليست مصنفاً تتناوله من الرف وتطبقه

كثير من الحركيين المتأسلمين ينادون -كما هم جماعة الإخوان- بالشريعة وتطبيقها، وقد اتخذوا من(الإسلام هو الحل)، شعاراً سياسياً، يرفعونه في مظاهراتهم ومطالبهم؛ مثلما رفع الخوارج في فجر الإسلام (لا حكم إلا لله)؛ بينما أن هؤلاء وهؤلاء كان هدفهم النهائي سياسي بحت؛ وجعلوا من الإسلام مطية ليلتف الناس حولهم ويزيدون أتباعهم.

وآخرون جعلوا من الشريعة -على وجه التحديد- مطلباً نهائياً، مثل الحركة الإرهابية في الشمال الإفريقي (أنصار الشريعة)؛ ولا أعتقد أن مسلماً يقف ضد تطبيق الشريعة، ولكن ما هي الشريعة؟.

هنا ننتقل من الإجمال إلى التفصيل. فجماعة الإخوان حين حكموا مصر أعلن رئيسهم مرسي أنه لن يطبق حد السرقة في الإسلام بحجة أن تلك (أحكام فقهية) وليست شريعة، كما قال في لقاء تلفزيوني شهير. (والدواعش) الذين يحزون الرؤوس -(يقطعونها)- ويذبحون مخالفيهم بالسكين كما تذبح الغنم، يقولون إن حزَّ الرؤوس شريعة؛ ودليلهم أن أحد الصحابة عندما ظفر بأحد المشركين بُعيد معركة بدر حَزَّ رأسه وجاء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وتجاهلوا أن الرسول قد نهى عن التمثيل بالجثث في آثار كثيرة رويت عنه بطرق وأسانيد صحيحة، فنسخت حكماً هذه الرواية إن صحّت، ولم نعد نر لها مثيلاً طوال تاريخ الإسلام. وعندما طلبوا (الجزية) من نصارى أهل الموصل، قالوا: أنهم مُتبعون لا مبتدعون؛ فهذا ما تقول به الشريعة وطبقه المسلمون الأوائل في التعامل مع أهل الذمة. وحركة (بوكو حرام) المتأسلمة والإرهابية يُصرون على أن أسر بنات النصارى، ثم استرقاقهم وبيعهم، تُقره الشريعة، فالشريعة بهذا المعنى المجمل أصبحت ذريعة ووسيلة لتفجير المجتمعات وتدميرها ونسف استقرارها، بينما أنها عندما تبحث في (التفاصيل) تجدها في المنطلق والمقاصد تتواءم مع الظروف والمصالح والعدل وتكريس الاستقرار؛ وهذه العوامل مجتمعة كما يقول فقهاء الأصول: (مناط الشريعة)؛ بل قد يصل تلمّس (العدل) عند التطبيق التنفيذي إلى مستوى الاختلاف على الحكم بالتجريم ونقيضه التبرئة؛ حتى أن بعض فقهاء الأحناف -كما ذكر بن حزم في (المحلى)- يرون أن الزنا الموجب للحد لا يقع إذا كان المزني بها قبضت أجراً؛ فقبضها للأجر يدرأ عنها الحد، لشبهة أن أجرها قد يكون مهراً قبلت به، شريطة ألا تكون في ذمة رجل آخر، ودليلهم: (عن أبي سلمة بن سفيان أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت: يا أمير المؤمنين أقبلت أسوق غنماً لي، فلقيني رجل فحفن لي حفنة من تمر ثم حفن لي حفنة من تمر، ثم حفن لي حفنة من تمر، ثم أصابني فقال عمر: ما قلت؟ فأعادت؛ فقال عمر بن الخطاب ويشير بيده: مهر مهر مهر ثم تركها). (راجع المحلى لابن حزم ج 11 ص 250 وما بعدها). في حين خالفهم في اجتهادهم هذا أغلبية أئمة وفقهاء المذاهب الأخرى وسفّهوا برأيهم، ولكن هذا لا يمنع أن اجتهادهم كان أيضاً من الشريعة و مؤصل. بمعنى أن الشريعة هي توجهات شتى، منها الثوابت المجمع عليها، والأغلب منها اجتهادات بشرية، ومتغيرات تختلف من زمن إلى آخر، تحمل في مضمونها اختلفات عميقة، قد تبدو متناقضة لمن لا يعرف مقاصدها، لكنها عند البحث في المقاصد النهائية متفقة ومتسقة مع بعضها. وهذه من فضائل الشريعة؛ فالأخذ بعين الاعتبار كل حالة حسب ظروفها الواقعية والموضوعية هو ما تُقره الشريعة من حيث المنطلق؛ خذ -مثلاً- حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب، فقال: يا رسول الله، أُقبِّلُ وأنا صائم؟ قال: لا، فجاء شيخ، فقال: يا رسول الله: أُقبِّلُ وأنا صائم؟ قال: نعم، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله: قد علمت نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه). وهذا مثال جلي على أنه صلى الله عليه وسلم يأخذ بالاعتبارات الواقعية والظروف الموضوعية في الأحكام.

والشريعة لا يمكن أن تكون صالحة لكل زمان ومكان -وهي كذلك- ما لم تتغير أحكامها تبعاً للمصالح وظروفها ومقتضياتها؛ فليس كل حكم شرعي أُجريَ في زمن ما يكون بالضرورة صالحاً لكل زمان ومكان كما يُمارس (الداعشيون) الجهلة في العراق وسوريا؛ فمن قرأ سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكيف تعامل مع المتغيرات أثناء فترة حكمه، يجد أن الشريعة فعلاً تتغير حسب مقتضيات الظروف والمصالح؛ بل إن كثيراً من علماء الأصول اعتمدوا في تقعيد أصول الفقه، وآلية استنباط الحلال والحرام، على كثير من ممارساته رضي الله عنه؛ فمثلاً مَنَع من هُم في المدينة من الزواج بالكتابيات مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمح به؛ لأن عمر رأى أن من مصلحة نساء المدينة المسلمات هذا المنع، فانتهى علماء الأصول من هذه الممارسة إلى أن من حق الإمام الشرعي (تقييد المباح)، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم لانتفاء أسبابه وبواعثه الموضوعية في زمنه، كما علق تطبيق حد السرقة أثناء المجاعة التي عمت المدينة وأريافها، وسميت بعام الرمادة، وغيرها من الأحكام والاجتهادات التي أكدت أن الشريعة مرنة، ومواكبة للمستجدات والنوازل، وتتعامل معها حسب مقتضيات المصالح. وعندما نجعلها نصوصاً واجتهادات ماضوية لا علاقة لها بالواقع، ولا تتغير ولا تواكب مقتضيات الظروف والمصالح، كما ينادي بذلك المتكلسون، وكذلك دعاة الحركات السلفية الجهادية، فانتظروا داعش وبوكو حرام والقاعدة، ومن تفرع عنها كجبهة النصرة ومثيلاتها، مرات ومرات.

إلى اللقاء،،،

مقالات أخرى للكاتب