16-08-2014

عن الحوار في الغرب وتمثلاته

سأحكي لكم في هاته المقالة قصة زميل لي السيد محمد براهيمي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية...... ابنه مالك كان يدرس في النظامِ المدرسي العمومي لمدة ثلاث سَنَوات تقريباً. كَان مالك وإخوته الأطفال المسلمون الوحيدون في مدرسة تصنيفها على مستوى عال جدا في ولاية ماساتشوسيتس.

وتلك كانت بشكل رئيسي العلة التي دفعته هو وزوجته إلى العيش على بعد ساعة من بوسطن حتى يمنح أطفالهم فرصة لكي يكُونوا في مدرسة جيدة. البديل كَانَ أَنْ ينتقلوا على بعد نِصْف ساعة شمال بوسطن ووضع الأطفال في مدرسة إسلامية فتحت مؤخرا وكانت بمعنى ما تقدم برنامجا تجريبيا من ناحية المنهجِ والبيداغوجيا. لا حاجة للقول أن هذه المدرسة كَان عليها فعل الكثير لتبرهن للآباء على كفاءتها لكي تبقى مفتوحة. وقدمت تلك المدرسة عروضا مغرية للآباء وقد كان السيد براهيمي بطريقة ما على وشك الخضوع لنفس الضغط. لكنه قاوم في نهاية المطاف وقرّر الالتحاق بنظامِ المدرسة العمومية. فمن ناحية، كَانَ العبء المالي أكثر من اللازم لوَضْع خمسة أطفال في مدرسة خاصّة. ومن ناحية أخرى، أراد زميلنا أَنْ يُعاشر أطفاله الأمريكان من كافة مشارب الحياة، الأمريكي الأصلي، والأمريكي الأفريقي، والوافد الجديد، بالإضافة إلى الأمريكيين مختلفي المعتقداتِ والمذاهبِ.

قبل سنتين، بينما كان السيد براهيمي ينقل الأطفالَ مِن المدرسةِ، أخبره مالك بأنّ صديقَه المفضلَ باتريك يعتقد بأنّ السيد المسيح هو «ابن الله». تذكّر زميلنا درجة الانفعال والجدية التي ميّزتَا تعابير وجه مالك وترنيمة صوته. استمر في عَرْض موقف صديقِه وأخبره بأنّه تصور باتريك أيضا بوجهة نظر مختلفة. لَمْ يرد الوالد تَبْسيط المسألة ذات الأهمية الكبيرةِ لابنِه بالضحك على وضع يبدو لطيفا ولا يستطيعُ أَنْ يتخيل مالك وباتريك يجلسان في مطعم المدرسة يشْربان علب عصيرِهما ويأكلان زبدة مخلوطة بالفستقِ وسندويتشاتِ، والدخول فيما يعتبر في جوهره حوارا ما بين الأديان؛ مُناقشة هادئة وحميمية حول الله، والكتب المقدّسة، وهوية السيد المسيح. وقد حصل أفضل من ذلك؛ أخبرَه مالك بأنّه تَعلّمَ بأنّ المسلمين ليسوا الوحيدين الذين لهم كتاب مقدّس، فالمسيحيون يقرؤون في كتاب يَدْعونَه التوراة.

هذه كَانتْ بالتأكيد لحظة الإشراق التي ألهمت الوالد بأن هذين الطفلين في الثامنة من العمر لديهما الشجاعةُ الكافيةُ ليتبادلا حوارا حميميا ولطيفا حول أديانِهما الخاصةِ، أخذا غذاءهما وانتهى اليوم بإغلاق أرضِ باحة المدرسة حيث قَضيا وقتاً ممتعاً وراحا في طريق عودتهم مرحين.

منذ ذلك اليومِ، فكر الوالد كثيرا في موضوع الحوارِ بين الأديان. وبدأ يقرأ عدة مقالات في الموضوع. أغلبها محملة بالفكرِ الباطنيِ الثقيلِ. كَانت المحتويات أكثر تجريدا أيضاً، تقدم تفسيرات صَغيرة جاهزة فيما يخص كيفية جعل الناس يَستمرّونَ في بَدْء ونَسْخ مبادرات الحوارِ بين الأديان في أماكنِهم أَو عبادتِهم أَو في مراكزهم الاجتماعية. لحسن الحظ، نَرى الآن عددا متزايدا مِن الأدبِيات التي تبتكرُ خططا ملموسة تُفصّلُ كَيْفَ يمكن لشخص ما التعاون مَع الفاعلين في المجتمع المدني، والجريدة المحلية للسكان، ومسؤولي المدينة، ورجالِ الدين أن يتآزروا ويَبْنوا شكلا منظما من الحوار مابين الأديان لَه قدرة التنويعِ الثقافي بشكل أكبر، يُعزّز السلام، ويُعمّقُ الفَهْم.

تم الاقتناع من طرف صُنّاعِ السياسة العامة بأنّ المنظماتِ أضحت فعّالة جداً في إنجاح الكثير من المشاريعِ، قَبْلَ أَنْ يُقرّر الأولون إدماج هذه المشاريعِ في السياسةِ، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتنمية أنشطة تتعلق بالمجتمع. تَتبنّى الحكومات في الوقت الحاضر مشاريع منشأها القطاع المجتمعي منذ أن ظهر بأنه لا برهان أو خطرَ على فشلِها. إن الحوار بين الأديان مثال على هذه الأنشطة التي لا المنظمة القائمة على الإيمان ولا الحكومات كَانت راغبة في تَصْديقها وتَبنّيها حتى قرّر مكون المجتمع المدني أَنْ يبلل أقدامه ويَختبر ادعاءاته.

هناك فَهْم ضمني بأنّ لفظ «حوار» لَم يتم اختياره بشكل عشوائي؛ والحوار كطريقة الاختيار يقصد منه تَفادي الانقسام والمجابهةِ، أي تَعميق الفَهْم لا بصنع وجهةِ نظر واحدة تستحوذ على أخرى، ولا تقصد الحوارات التوَصُّل إلى الإجماعِ بل إلى تقديم مجال يَحتفلُ بالتنوعِ والغنى التي تلزم عنها.

الحوار، وليس النقاش، فرصة لمشاركة القصص ولاستبدال التصور السابقِ والحكم المسبق. نشرع في هذه الحواراتِ مُسلَّحين بخلفياتِنا السياسيةِ والثقافيةِ والاجتماعية، ورهان الحوارِ أَنْ نتعلم الاستماع، ونمتنع عن الحُكْم ونتحكم في طبيعته. نَجْلسُ حول طاولة الحوار ونحن نعرف بأنّ هناك اختلافات علينا الاعتراف بها. إن الحوار هو فَنُّ تَقدير تلك الاختلافات وجْعلُها تعمل لفائدتِنا وجعل هذه الاختلافات تتمظهرُ بنفسها بطريقة توحدنَا بدل أن تفرقنا، تجْعلُنا منخرطين لا خاملينَ.

فالحوار بين الأديان كأداة لصنع السلامِ والتطورِ لم يكن موضع اعتراض أو دحض. ويُمْكِنُ أَنْ نلخّصَ بعضا مِنْ منافعِ الحوارِ بين الأديان في الأمور التالية التي لا نقر بأي حال من الأحوال أنها نهائية:

- التَرويج للاحترام والتنوعِ.

- مد الجسور بين الفئات الاجتماعية.

- تطوير مجتمع أكثر تماسكاً.

- رفض التحجر والاحتكار الثقافيين.

- رفض التبعية أَو التفوق الثقافي.

-الترويج للتقديرِ المتبادلِ.

- التخفيف من الخوف، ومن كراهية الأجانب، والنعرة القومية.

- إعادة الثقةِ.

-صياغة العديد مِن التحالفاتِ.

- خلق المناعة ضدّ التطرّف العرقي والديني.

- إبراز الخصائص المشتركة.

-مْنعُ المساومة بالقِيَمِ الدينيةِ لتَبرير العنفِ.

- الزيادة من وثيرة التفاعلِ وخلق الشعور بالتآزرِ.

بناء على النقطةِ الأخيرةِ، تَخْلقُ قلة التفاعلِ فراغا يقوي بيئة الحقدِ والتخوّفِ. كما أبانت على ذلك الدراسات الإعلامية وعِلْم الاجتماع، خصوصاً نظرية دوركايم Durkheim في التضامنِ... كما ربط لافلور Lefleur بين نسبةِ جريمةِ التلفزيون وحقيقة الجريمة الفعلية، بأنَّ التلفزيون يسيء تمثيل الجريمة بشكل إجمالي. والحقيقة، أن علم الاجتماع التجريبي قد أثبت أن نسبةَ جريمةِ تلفزيونِ تمثل عشَر مرات نسبة انتشار الجريمةِ الفعليةِ. ويبين هذا البحثِ بشكل واضح أنّ الحقائق الثانوية تَمِيلُ في أغلب الأحيان، عن قصد، لأسبابِ سياسية أَو منحرفة إلى تَشكيل سلوك المستهلك.

خلق السيد براهيمي الجمعيةِ المغربيةِ الأمريكيةِ المدنيةِ والثقافيةِ للحوار بين الأديان التي يتشرف برئاستها والتي بَدأتْ كجُهد يقظ لتفاهم أوسع..

طَوى زميلنا الأكمامَ ونزل هو وأعضاء جمعيته إلى الشوارعِ.... استخدموا رأسمالهم الطبيعي والبشري الخاص لرَفع الرأسمال الاجتماعي. ملئتْ مطابخ التخزين؛ ونُظّمتْ إغاثة ظرفية. ونَصحوا صانعي القرار في مُدنِهم وبلداتِهم فيما يخص هموم الإنسان العادي والنساءِ مثل السكن غير المكلف، وإدماج الجالية، والفقر، والجوع. خَرجوا إلى الشوارع وحرضوا الناس ضدّ الحربِ. قاموا بوقفة أمام المؤسسة التشريعية لمساندة حقوق المهاجرين، وتَحدّثوا عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية الملحّة والأعمال التي يَجِبُ أَنْ تُنجز. تمت العناية بالفقراء والمسنين. لا يتعلق الأمر بالإيمانِ بل بالأحرى بممارسةِ الإيمانِ. سُئلَ مرّة الأستاذ سميث كانتويل Cantwell عما إذا كان مسيحيا، فكان رَدّه: «اسْأل جاري» يَعْني هذا الجواب العميق الكثير بالنسبة للمسؤولية الاجتماعية، التي تأتي ثمارا أكثرَ في مجتمع متعدّد الأعراق والثقافات.

في الختام، يخبرني زميلنا وهو سعيد بأنّ ابنه مالكا وصديقه باتريك ما زالا صديقين حميمين. وتفاعلهما يمثل مثلا ثابتا يبرهن على أن ذوي ثماني سنوات يُمْكِن أَنْ يَقوموا بالحوار على نحو أفضل مِن البالغين.....

مقالات أخرى للكاتب