19-08-2014

أَنْ تَخْتَلِفَ مَعِي فذلك شيءٌ، وأَنْ تَفْتَرِيَ عَلَيَّ فَشَيْءٌ آخَر..!

عندما قال أحد عظماء التاريخ الإنساني لمجالِسِه:- تكلم حتى أراك.

وعندما قال أحد الخلفاء لمتحدث ثرثار، استأذن للصمت، بعد رغاء طويل:- وهل قلت شيئاً.

وعندما قال مٌعَلِّم هؤلاءِ جميعاً:-

[وهل يَكُبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسسنتهم]. فإنما كانوا جميعاً يدركون أنّ الكلمة سيدةُ الموقفَ. بها تشتعل الفتن، وبها يأتلف الناس.

مشكلة العصر [ثورة الاتصالات]، وبلوغ الكلمة التي يطلقها الفضولي، الذي لا يلقي لها بالاً، وهو مسترخ على سريره آفاق المعمورة.

والمشكلة الصعبة أنّ هذه الكلمة غير المسؤولة، تظل تبحث عن مُسْتَقَرٍّ لها، ليكون لها ما بعدها.

والمشكلة الأصعب أنّ دول الاستكبار، يتوسّلون بمراكز المعلومات، والإحصاءات، لتحديد مواقفهم. وبضاعة تلك المراكز من هذا الفيض الرخيص، وغير المسؤول.

قلت، وسأظل ما حييت أقول:- المشكلة ليست في الاختلاف، ولكنها في إدارته، وفي العدل في القول:- {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}.

الاختلاف أزلي، مثلما أنّ الاجتهاد أزلي. ومن اقترف خطيئة قَفْل باب الاجتهاد، فهو كمن يحلم بالوفاق المطلق، وليس مسيئاً، ولا مخيفاً أن يختلف معك الآخرون، وقديماً قيل :-

[لولا اشتعالُ النَّار فِيما جَاوَرَتْ

مَا كَانَ يُعْرفُ طِيْبَ عَرْف العُود].

لم يَبْرز العلماءُ، والشعراءُ، والفلاسفة، والمفكرون إلا من خلال الاختلاف. الذين عبروا الساحة بدون مخالف، طواهم النسيان. آلاف العلماء الذين آثروا السلامة، لم تبق لهم باقية. الواثقون هم الذين ينامون ملء جفونهم، حين يسهر المخالفون لهم، ويختلفون.

الاختلاف إذاً شيء، والعدل في القول شيء آخر. كثيرون أولئك الذين يفقدون قيمتهم، ولا يَصُونون كرامتهم، لأنهم يفترون الكذب، ويقولون منكراً من القول وزوراً.

قد تكون عالماً متبحراً، ومتحدثاً مثيراً، وخصماً لدوداً، ولكنك حين لا تكون أميناً صادقاً، تفقد الألق، وتسقط من عيون الناس.

داء السمعة، والمكانة، والاحتشام، تَسْيِيسُ غير المُسَيَّس، و[الأدلجة]، والتعصب الأعمى. إنها سمات تُعْمي وتُصم، وتحمل المنتمي على الافتراء، والنفي، والاحتكار، والاستعداء.

ومتى استقر عند المتلقي كذبُ العالمِ، أو المفكر، فإنه يفقد احتشامه، وتأثيره. وما قيمة علم لا يحترمه حامله، ولا يصدقه متلقيه:- [ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم].

قدر [المملكة العربية السعودية] أنها دولة محورية، تمتلك أعماقاً: اقتصادية، وعربية وإسلامية مؤثرة، وأنّ تجربتها السياسية متوازنة، وثابتة. لا ضرر فيها، ولا ضرار، تؤثر السلامة، وتدفع بالتي هي أحسن، وإذا جرَّتها التصرفات الهوجاء إلى الحِمَى، اتخذت أيسر الحلول، وأهون الأضرار، وغلَّبت راجمات الدرهم، والدينار، على راجمات الصواريخ، ولهذا حَارَ عَدُوّها بِها، وأعيت اللعب القذرة، ولم يجد خصومها غير الشرفاء إلاّ بضاعة الافتراء.

هذه الإمكانيات جَرَّت عليها ويلات لا تطاق، وسَلَّطت عليها ألسنةً حدادا. فنسمع أنّ [الوهابية] صنيعة يهودية، وأنها مصدر الإرهاب.

ودعك مما دُوْنَ ذلك من الاتهامات، والافتراءات. ودعك من [قنوات الضرار] التي أنشِئت، وأنفق عليها من خبز الجياع، وعلاج المرضى، وكرامة الأبرياء وَوُجِّهت بكل ما أوتيت من لسن فاجر، وبذاءة وقحة، للنَّيل من رموز المملكة، وثوابتها، ومواقفها.

كانت [القومية] على أشدها، وكنا على لسان بعض القوميين خونة، وعملاء، ورجعيين. وذهب أولئك كلهم أجمعون إلى مزبلة التاريخ، وبقينا نستبق جراحهم لدملها، وجرائرهم لحسمها، نبذل المال بسخاء، ونستغل الوجاهة بشره، للحيلولة دون السقوط. وللمتردد أن يستعرض تاريخ رجلين، كانا فَرَسَيْ رهان [فيصل بن عبدالعزيز] و [جمال عبدالناصر] رحم الله الأول، وعفى عن الثاني.

وكان [البعثيون] في أوج حراكهم، وكان خيارنا الحياد الإيجابي، لا نريد لضرر البعث أن يَمَسَّ مصالحنا، ولا أن يقلل من خيارنا الإسلامي. ولما تورّط البعثيون في حربهم الإقليمية، أصبحنا أمام خيارات صعبة، أحلاها أمرّ من العلقم، ولم نجد بداً من خيار المناصرة للأقربين: لغة، وديناً، وأرضاً. فأنفقنا [المليارات]، وأرجأنا جانباً من خططنا التنموية، ومشاريعنا المحلية، وخسرنا جانباً من علاقاتنا.

ولما وضعت الحرب أوزارها بعد خسارة الطرفين: مادياً ومعنوياً، فوجئنا بمكافأة سخية، وجاءت الطامة الكبرى: باحتلال [الكويت] بمواطأة عربية، ومؤامرة مكشوفة على الخليج العربي.

وتراءت الخيارات الأصعب، وانشق العالم العربي على نفسه، وتفرّقت كلمته، فكان أن اتخذت المملكة خيار المواجهة العسكرية. وانتصر الحق، وعاد المواطِئُون بغيظهم، لم ينالوا خيراً.

وجاء المعذرون، ونسينا الجراح العميقة، جراحات: حسية ومعنوية، وتذكرنا قصة [مِسْطح بن أثاثة] مع [حديث الإفك]. أناس ننفق عليهم، وندعم قضاياهم، ونتبنّى حل مشاكلهم، يطعنوننا من الخلف، ثم يعودون آسفين، معتذرين، ونقبل عودتهم، وننسى مآسيهم، مصيخين لإغراء الله، وأمره:- {ولْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

وعلى المتردد أن يقرأ تاريخ رجلين: [فهد بن عبدالعزيز] و [صدام حسين] رحمهما الله، وأن يستعرض الأحداث بتجرد، وحيادية، ليعرف كم نلاقي من المآسي.

في أتون تلك المشاكل، كنت ممن شَرَّفَتْه دولته، ليكون ضِمْن وفود الصداقة التي انطلقت إلى آفاق المعمورة، لإيضاح موقف المملكة من الحدث، وأنه يقتصر على خروج [العراق] من [الكويت]، دون حساب، أو عقاب. ورفضت إحدى الدول استقبالنا. وفي [الربيع العربي]، لم يؤثر فينا هذا الموقف، بل استقبلنا [رئيس الدولة] لاجئاً، حَقَّنَا بلجوئه دمه، وعرضه، ولما نزل أوفياء. بل نبادر بالإحسان للمسيء، ونغض الطرف عن الهفوات، ولا نحمل الحقد:- [وليس كبير القوم من يحمل الحقدا]. وليست هناك قضية مستعصية، إلا وفي أرجاء إنسانيتنا يكمن الحل.

مارسنا ذلك مع الحرب الأهلية في [لبنان] فكان [اتفاق الطائف] حَلًّا متداولاً حتى هذه اللحظة. ومارسنا ذلك مع الحرب الأهلية في [أفغانستان].

ولما تزل كل أطراف النزاع تَقْبلُ المظلة السعودية، لِفَضِّ الاشتباكات، وحقن الدماء، ورأب التصدعات. ولما يزل قَدَرُ المملكة أن تكون في اللهب، ولا تحترق! تواسي، أو تأسو، أو تتوجع!.

لست في هذه الاستعادة السريعة لطرف من أحداث المنطقة، ودورنا فيها، ممن يُدل بإسهامات دولته، ولا ممن يَمُنُّ بعطاءاتها، فما تقدمه واجب أخوي، وإنساني. وسنظل معه، وإن لم تخدمنا الظروف. ولكنني أريد تذكير من أضلهم السامري، وحملهم على التنكر للمملكة، وافتراء الكذب عليها؛ وعلى علمائها، ودعاتها، ومصلحيها.

أن يقول [نوري المالكي] ما تتسع له أشداقه، فهذه من رفسات الذبيح، وقد لفظ أنفاسه الأخيرة.

وأن تقول [إيران] مثل ذلك، فتلك شنشنات أخزمية. ولكن أن يأتي عالم نُجِلُّه، ونثمّن قدراته المعرفية، وبعض مواقفه، ثم لا يتردد في الولوغ في سمعة [المملكة] والتنكر لها، ولعلمائها، مع ما تمتلكه من رصيد تاريخي لا ينازع، وما تتمتع به من مواقف مشرفة تصب في صالح الأمتين العربية، والإسلامية. فتلك إحدى الكبر.

ما نملك قوله لهذا الصنف من العلماء المجازفين، قول الباري جلَّ وعلا:- {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

وفي ظل هذا التصعيد للعقوق، أخشى أن تَمَلَّ المملكة من الصفح، وأن تضوى عزماتها من احتمال الأذى، ورؤية جناته. ثم لا تجد بداً من إغلاق أبوابها على نفسها، والتوفر على ثرواتها، والانصراف إلى شأنها الداخلي، تاركة القتل يستشري، والكرامات تهدر، ثم لا تجد الأمة المهيضة الجناح من يحقن الدماء، ويحفظ الكرامات.

إنّ على المفترين أن ينظروا ماذا فعلنا مع [العراق] في آخر محنة ألَمَّتْ به. وماذا فعلنا مع [لبنان] فيما جد عليه من نكبات. وماذا فعلنا مع [اليمن] في حروبه الأهلية. ثم لينظروا ما نفعله مع قضية الأُمّة العربية الأزلية قضية [فلسطين] مع ما نتجرّعه من ويلات تمارس في العلن من إخواننا [الحمساويين].

- ألسنا بتلك المواقف نمتلك من الحلم، والأناة ما لا يمتلكه غيرنا. ونحتمل من الإيذاء ما لا تحتمله صم الجبال؟.

كل شيء له نهاية، ومن أغضب، ولم يغضب، فليس بإنسان ذي إحساس. لقد مللنا نكران الجميل، ولم يبق إلا أن نعاقب بمثل ما عوقبنا به:- {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ}?.

نعم هناك تعارض مصالح، واختلاف في وجهات النظر وهناك جنايات لا تحتمل، تحملنا على اتخاذ مواقف لا نختارها، بل نُكْره عليها. فـ[الطائفية] المستشرية، لا يمكن أن نقبل بها، ولا أن نغض الطرف أمام ممارساتها التصفوية. و[التبعية] الخنوعية الاستسلامية، التي لا يمكن أن نتصورها، ولا أن نحتمل عقابيلها. و[التآمر] على تمزيق الوطن العربي لن نسلم له.

لا نريد لـ[العراق] أن يكون ولاية [إيرانية]، ولا نريد لـ[لبنان] أن يكون عِدّة حكومات داخل وطن واحد. ولا نريد لـ[سوريا] أن تكون طائفية تابعة للمجوسية. ولا نريد لـ[مصر] في عهد الإخوان أن يفقد محوريته، وعمقه، ويغرق في [الأدلجة]، وتصدير المشروع الإخواني. ولا نريد لـ[اليمن] التشرذم القبلي، والطائفي. ولا نريد أن نستسلم لصراع [الصفوية] و[العثمانية] على المتردية العربية.

نريد إسلاماً شاملاً، يحتوي كل الأطياف، والطوائف، إسلاماً على مراد الله، لأعلى مراد الآيات، والملالي، والأحزاب. إسلاماً يستقبل مكة، ولا يستقبل [قم].

نريد إسلاماً يعيش فيه أهل القبلة أعزة، لا يُنظر فيه إلى مذهب، ولا إلى طائفة، ولا إلى حزب.

من شهد [ألا إله إلا الله]، وأن [محمداً رسول الله]، فهو معصوم الدم، والعرض، والمال.

نريد إسلاماً لا تُراق فيه الدماء، ولا تنتهك فيه الحرمات، ولا يخاف فيه الشيوخ، والنساء، والأطفال.

نريد أمة عربية، قوية بوحدتها، عادلة في حكمها، متصالحة مع نفسها، متعايشة مع دول العالم.

ثم ليكن الاختلاف، ولتكن الخيارات، ولتكن الأحلاف، والمصالح العارضة.

المملكة دولة في سياقها العالمي، لها، وعليها.! لا ندّعي لها العصمة، ولا نزكي كل أعمالها، ولا نفرض رؤيتها على أحد، ولا نصدر خطابها.

هناك قواسم عربية، وإسلامية، وعالمية مشتركة، لا نتردد في استغلالها. وهناك مناطق توتر، وبؤر اختلاف، ومنعطفات خطيرة، ومصالح متعارضة، لا نتردد في تجاوزها بأقل الخسائر، وأسرع الأوقات.

إننا لا نخاف من تعارض المصالح، ولا نَفْرَقُ من الاختلاف، ولكننا نتطلع إلى إدارة حكيمة لكل العوارض، تقدم المصالح العامة على المصالح الخاصة، وتعطي بعض التنازلات، لتفادي التصدعات.

ومتى أضرت مصالحنا بالغير، فليتذكر الغير، أن بعضاً من مصالحه تضر بنا، وأن الضرر ليس خيارنا الأول.

وإذا شكلت نجاحاتنا، وحسن إدارتنا للأزمات، مضايقة للفاشلين، فإنّ من الخطأ أن تجر أقدامنا لتحمل جرائر المفلسين.

من حق المختلف معنا أن يدافع عن وجهة نظره، وأن يفند أخطاء المتماسِّين معه، ولكننا لا نريد الكذب، والافتراء، والإفك.

المملكة دولة إسلامية، سلفية، معتدلة، مستنيرة، ومن شذ من أبنائها، فتلك مسؤوليته، ومسؤوليتنا في مطارته، وأطره على الحق.

ولأننا ضد الإرهاب، وضد إلصاقه بالإسلام، وضد التَّسمي بغير المسلمين، فقد استبقنا المبادرات الحضارية، التي تدل على حرصنا على تجاوز الطائفية، والمذهبية، والإرهاب، والتطرف.

- فمن الذي طرح مصطلح [الحوار]؟.

- ومن الذي نادى بـ[التقارب بين الأديان]، وأسهم في تشكيل أعضاءٍ يتداولون الآراء من مختلف الديانات، لتفادي الصدام؟.

- ومن الذي طالب بإنشاء [المركز الدولي لمكافحة الإرهاب]، ومطاردة المنظمات الإرهابية؟.

- ومن الذي دعم المركز منذ إنشائه عام [2011م] بأكثر من مئة مليون دولار، وتفاعل معه؟.

ومع هذا فنحن في نظر العَفَن الطائفي مصدر الإرهاب، ورعاته. على الرغم من أننا أوذينا من الإرهاب، وزُجَّ بطائفة من أبنائنا في أتونه. ودولتنا لما تزل وراء الفئة الضالة، تناصح، وتسجن، وتحاكم، وتحكم بالعدل.

- فمن مارس ما تمارسه المملكة؟.

بكل ما تقدم، فإننا لا نريد احتواء العالم العربي، ولا نريد تصدير رؤيتنا، وصدورنا ترحب للتنوع، والتعدد. المهم أن تكون لأمتنا مصلحة عليا، لا تُمس، وأن يكون لها ميثاق شرف لا يُخترق، تصان فيه الدماء، والأعراض، والأموال.

ذلك ما تريده الشعوب العربية المغرر بها، والمزيف وعيها.

- فهل نستبين الرشد، ولو في ضُحَى الْغَدِ؟

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب