20-08-2014

ماذا حل بالوسطية؟

في نهاية تسعينات القرن العشرين ظهرت دعوات لنبذ التشدد وانتهاج منهج الوسطية في الدين، وهذه الدعوات وإن كانت قديمة قدم الدين نفسه، فإن دوافعها في هذا العصر هي دوافع سياسية، فقد أفرز التشدد حركات بعضها يعود لبدايات تأسيس الدولة السعودية ممثلة بجماعة (إخوان من طاع الله) ثم تلى ذلك بعد عقود ظهور حركة (جهيمان) وقيام منظمة القاعدة وما تلى ذلك من أحداث، فالدعوة للوسطية هي دعوة لوسطية في التناول السياسي من خلال المنهج الديني المتسامح، والراصد لظهور الدعوة يجد أن كثيرين استجابوا لها كدعوة، ولكن لا أحد كان يستطيع أن يتفق مع غيره حول تعريف محدد للوسطية فأصبحت الوسطية طيفاً بات فيه متشدد ومتسامح، وبعد نشوء حركات التغيير التي سميت بالربيع العربي ضمرت الدعوة للوسطية وتخلى عنها بعض منتسبيها لصالح الأقطاب التي ظهرت كند للحكومات التقليدية، فألتف منهم كثير تحت لواء (الإخوان المسلمين) وظهرت مجموعات سنية وشيعية، كلها تمثل تطرفاً في طروحاتها السياسية وأصبح الدين ميداناً ومسرحاً لكل طالب سلطة، والحال المعاصرة دليل على هذا الاستقطاب واضمحلال الدعوة للوسطية، فلم تعد الوسطية من متطلبات المرحلة في أذهان صناع الإسلام السياسي.

في كل الأمم المجتمع الذي يبني والذي يعتمد عليه اقتصاد وتنمية الأمة هو المجتمع الوسطي، الوسطي بتعريفه الاقتصاد وبتعريفه الفكري والديني، فمعيار الاستقرار والنماء في كل أمة هو كِبر كتلة المجتمع الوسطي، وبلادنا ليست استثناء فعندما كانت في بداية نهضتها كان المجتمع متوازناً في كتله الاجتماعية على الأقل من حيث التمسك في عقيدته ودينه فكان هناك كتلة المتدينيين وهم علماء الدين وأئمة المساجد وبعض الوعاظ وهناك كتلة المتحررين أو ما كان يطلق عليهم (الزقرت) ولكن معظم المجتمع كان من أهل الوسط، عقيدتهم صافية وقلوبهم مؤمنة ولكنهم يستمتعون بمباهج الحياة، هذا التوازن بقي متماسكاً حتى أتت حركة (جهيمان) فباتت كتلة المتدينين وكتلة (الزقرت) تأكل من كتلة الوسط وما صاحب بروز الجهاد في أفغانستان ودعم الدولة له ونشوء ما سمي بـ( الصحوة) جعل كتلة المتدينين تتضاعف بصورة ملموسة حتى باتت أكبر من كتلة الوسط بل إن كتلة الوسط اضمحلت وبات لدينا في المجتمع تصنيفاً جديداً للكتل، لذا أتت الوسطية كدعوة للشعور العام بخلل في كتلة المتدينين وبروز أناس فيها يميلون للتشدد، وينشدون نظاماً سياسياً يناسب طروحاتهم. وما زال هؤلاء ينشطون في دعواهم بالسر تارة إذا شعروا بحزم الدولة في مقاومتهم، وتارة بالعلن عندما تصبح الظروف مناسبة لهم.

الوسطية عندما برزت كانت واضحة في أذهان من دعوا لها، ولكنها كانت غامضة للمستهدفين بها، فتلقفوها وطوعوها لتناسب طريقتهم وطروحاتهم، وأذكر أن أحدهم قال في تعريفه للوسطية، «إنها منهج وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أراد أقل من ذلك فهو متساهل ويخشى عليه وعلى دينه»، وعندما نظرت في السيرة النبوية وجدت أن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تمثل الحد الأقصى المطلوب لاقتداء المؤمن والامتثال بها، لذا فهي ليست الوسط، فلا يصح أن يزايد أحد على الرسول صلى الله عليه وسلم، والدليل على أنها ليست الوسط، حديث طلحة بن عبيد الله إذ قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجدٍ، ثائرُ الرأس، نسمع دويَّ صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرُهن؟ قال: لا، إلا أن تطوّع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل عليَّ غيرُه؟ فقال: لا، إلا أن تطوَّع، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرُها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع. قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقُص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق». وفي رواية أخرى: «أفلح، وأبيه، إن صدق. أو: دخل الجنة وأبيه إن صدق» هذه هي الوسطية وهذا ما كان عليه معظم الناس فيما مضى.

نحن اليوم بحاجة لإعادة تركيب المجتمع لكتل تعيد له توازنه، ولن يعود له توازنه إلا بجهد حكومي واجتماعي الذي يفرض قيام الدولة، ودعمها للنشاطات الثقافية وفتح المجال أمام ممارسة الشباب للحياة الأدبية والفنية والرياضية، وتهيئة المرافق لذلك، إلى جانب وضع الضوابط القانونية التي تحمي الكتل الاجتماعية من غولة بعضها على بعض وتؤسس سلطة أمنية صارمة في كف العدوان.

mindsbeat@mail.com

Twitter @mmabalkhail

مقالات أخرى للكاتب