23-08-2014

عن الردع الثقافي مرة أخرى

في مقالة عنوانها (سلاح الردع الثقافي) منشورة في الجزيرة الثقافية بتاريخ 28 سبتمبر 2013 تكلمتُ بإيجابية عن القرار المفاجئ الذي اتخذته وزارة الإعلام في دولة البحرين بمنع دور نشر لبنانية -لم يتم الإفصاح عن عددها وأسمائها- منتمية إلى ما يسمى (حزب الله اللبناني) من المشاركة في معرض الأيام الثقافية للكتاب، المقام في المنامة تلك الأثناء، كما تم منع دخول جميع إصدارات تلك الدور إلى البحرين وسحب المتواجد منها في المكتبات.

وقلتُ في مقالتي تلك بتعميم صريح العبارة: (نعم، لكل دار من دور النشر العربية التجارية ذائعة الصيت والحضور في كل المعارض حزبٌ أسسها وتيارٌ يدعمها وطائفةٌ يعتمد زعماؤها على تحقيق غايات إستراتيجية ثقافياً، ترسّخ لمبادئهم الفكرية وأدبياتهم من خلالها.. والمسألة لها نطاقات تتجاوز كثيراً حسابات الربح والخسارة (المادية - المحدودة جداً) من طباعة الكتب وبيعها، كما يحسب بعض الطيبين الذين يدخلون إلى عالم التأليف والنشر بنوايا صافية)..!

وتوسعتُ أكثر في الكلام ضمن تلك المقالة، ومقالتين سابقتين لها، كانت الأولى بعنوان (منع الكتب) منشورة بتاريخ 17 يناير 2013 والثانية بعنوان (عن التأليف وتبعات النشر) بتاريخ 11 أبريل 2013 وكان الغرض من تلك المقالات الثلاث لفت الانتباه إلى مسألة يغفل عنها كثيرٌ من المؤلفين السعوديين -الشباب تحديداً- الذين لا يعرفون عن دور النشر العربية أكثر من حضورها اللافت في معارض الكتب، وجديدها الذي يتصدر قوائم الأكثر مبيعاً، وسهولة التواصل معها من خلال مواقعها الإلكترونية؛ فيندفعون إليها بمخطوطات أعمالهم بمجرد حصولهم على (تسهيلات ترحيبية) منها يحسبونها (دعماً خالصاً)..!

دور النشر اللبنانية، على كثرتها وقوة حضورها في معارض الكتب، تبقى الأكثر غموضاً في حقيقتها وتعتيماً حول هويتها بين دور النشر العربية، لأسباب كثيرة أولها تعدد الأحزاب والطوائف والتيارات والانتماءات في البلد الصغير الغامض (لبنان) وآخرها الأيادي المتعددة التي تأتي من أقاصي الدنيا لتدير أعمالها -ولا أقول أجنداتها أو مخططاتها- في المنطقة من داخل البلد الصغير المفتوح على العالم كله (لبنان).

النشر في مصر مختلف تماماً، ففي كل حالات مصر ظل فيها كيان (الدولة) يقابله كيان (الشعب) بالتوازي، فمهما تداخلت وتباينت الاتجاهات يظل الخطان المتوازيان أقوى خطين متوازيين في البلد الكبير (الدولة والشعب) لذا، فحين اعتبرت الدولة والشعب معاً تنظيم (جماعة الإخوان) تنظيماً إرهابياً، بادر الكلُّ إلى كشف كل أذرع وأفرع ذلك التنظيم، ومن أبرز تلك الأذرع دور النشر والتوزيع والمكتبات أيضاً.. فصدرت من جهات متعددة قوائم تضم -حتى الآن- أكثر من سبعين دار نشر مصرية تنتمي لتنظيم جماعة الإخوان، بينها دور كبرى عريقة ومرموقة لم يكن يخطر ببال أحد أنها تابعة لتنظيم الإخوان، وانتشرت أسماء تلك الدور عبر الصحف المصرية والمواقع الإلكترونية والمدونات؛ وذلك ما لم ولن يحدث في لبنان للأسباب التي ذكرتها. فما جدوى الرصد والتشهير والتحذير من التعامل مع دار نشر تنتمي لتنظيم إرهابي؟.. وما الخطر الذي -قد- يتعرض له المؤلف حين يصدر كتابه عن دار نشر يجهل أنها تابعة لذلك التنظيم، أو حتى متعاطفة معه؟.

بالنسبة للسؤال الأول، فالجواب عنه يكمن في السؤال الثاني، بينما الجواب عن السؤال الثاني يحتاج إلى كثير من التهويل حتى يكون مقنعاً لغير المبالين بالأمور التي يحسبونها (سياسية) بينما هي في صميم الأمور (الثقافية) بمجملها الثابت مكانه وتفصيله الذاهب بنا إلى أمور أخرى لا أحد يعرف إلى أين ستنتهي.

سأقولُ مختصراً، وعلى مسؤوليتي: عندما ينشر المؤلف كتابه عن دار نشر، فهو يضع اسمه ضمن قائمة الأسماء التي يتشكل منها رصيد تلك الدار وحجمها وقوّة صوتها، فلا يستبعد أحدٌمن المؤلفين أن يكتشف لاحقاً بأن اسمه مكتوب ضمن قائمة أسماء لمؤيدين أو معارضين في أمور لا علاقة له بها أبداً. والأدهى من ذلك أنه قد لا يكتشف أبداً بأن مخصصات مالية تقيد باسمه ويصرفها غيره من قيادات تلك الحركة أو ذلك الحزب المؤسس والمدير لدار النشر عن بعد أو قرب -سيان!- هل قلتُ شيئاً غريباً؟.. ربما الأغرب هو ما لم أقله بتوضيح مفصل، وأحسبني اختصرته بإيجاز واضح، فوسائل البحث والتقصي متاحة الآن للجميع. والمثقف قبل أن يقدّم ثقافته إلى العالم عليه أن يتفحّص معنى كلمة (دار) ومعنى كلمة (نشر) كما أتفحّص معنى (الرّدع الثقافي) الذي تستخدمه الدول المتقدمة المتجاوزة للردع الخاطئ الذي يحبط أكثرنا وأعني به (الرقابة) التي تقف ضدّ المبدع على طول الخط، بعكس (الردع) الذي يقف ضد أعدائنا وقفة تجعلهم يعودون بكامل منتجاتهم من حيث أتوا خائبين. هذا ما أوافقه وأصرّ على تأييده إصراري على حريّة الكلمة وانفلاتها من كل معتقل يريد لها أن تكون في صالحه دائماً وضد غيره دائماً في حين أننا كلنا ضدّه. وهو يعرف أننا ضده ولكنه يسخر من براءتنا ويحتال على طموحاتنا بوجوه نرتضيها مخدوعين مصافحين له من خلالها غافلين عن كونه ليس ضدّنا فحسب، بل ألدّ أعدائنا.

ختاماً: (ألا هل بلّغت.. اللهم فاشهد).

ffnff69@hotmail.com

الرياض

مقالات أخرى للكاتب