23-08-2014

حين يتيه (الأكاديمي) في دهاليز (الإدارة)

كنت قد ختمت المقالة السابقة التي أتحدث فيها عن الرمز في الوقوف عن إسناد الفعل «أضللن»، إلى الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، واتخذته شاهدا على أن الرمز وهو الأصنام في تلك الآية يملك من السلطة والقدرة على الإضلال ما يجعلها عرضة للمساءلة.

وقد كدت أن أنهي القول في هذه المسألة بسؤال جوهري ينقل الحديث إلى موضوع آخر، ألا وهو: أترانا سنجد هذا المعنى الدقيق للآية لو أننا قلنا: إن إسناد الفعل في الآية من قبيل المجاز العقلي وعلاقته السببية..

دون مُقدِّمات.. دعوني أضع بين أيديكم مجموعة من التساؤلات التي تلخص هذا الموضوع، وتفصح عما أحاول لفت النظر إليه ومعالجته في هذه الزاوية: هل يمكن أن ينجح الأكاديمي في العمل الإداري؟.. وهل هناك علاقة بين تميزه العلمي وإبداعه الإداري؟.. وما هي المعايير التي يعتمد عليها أصحاب القرار في اختيار الأكاديميين للعمل الإداري؟.. ثم ما هي الآثار المترتبة لعمل الأكاديمي في الإدارة؟.. وهل لديه الوعي الكامل بهذه الآثار؟.. وهل يملك القدرة على الجمع بين العملين وأن يقدمهما بالجودة والتميز ذاتهما؟.. وهل كل أكاديمي مهيأ لهذا النوع من الأعمال؟.. ولماذا يقبل به إذا كان دون ذلك؟ وما هي المغريات التي تجعله يتخلى عن عمله الأكاديمي ويتوجه إلى فضاء الإدارة؟.. وهل تُقدِّم المؤسسات التعليمية للأكاديمي دورات في العمل الإداري قبل أن تصدر قراراً بتعيينه فيه؟.. ثم هل هناك ضرورة لأن يشغل الأكاديمي عملاً إدارياً؟.. وهل لديه من الإمكانات ما ليس لدى الموظف الإداري؟

أدرك ابتداءً أنَّ بعض هذه التساؤلات تفتح آفاقاً أخرى لموضوع هذه السطور ويمكن إفرادها بالحديث في مقالات مستقلة، وأدرك أنَّ هذه القضية أكبر من أن تحيط بها هذه التساؤلات، وأدرك ثالثاً أنَّ الحديث فيها ومحاولة معالجتها تحفها كثيرٌ من الإشكالات، وأدرك أيضاً أنَّ هذه المساحة أصغر من أن تلم بها، ولا أزعم أني سأجيب هنا عن جميع التساؤلات؛ لأنَّ الموضوع الذي سأتحدَّث فيه محدد في العنوان، غير أنَّ القصد من هذا كله هو إثارته والتنبيه إليه، ومحاولة تلمس مواطن المشكلات التي يمكن أن تنتج عنها، والسعي إلى إيجاد الحلول لها.

يجب أن نتفق أولاً على أنَّ الفضاء الذي يحلق فيه الأكاديمي هو فضاء علمي يمكن النظر إليه من زاويتين: التعليم والبحث، حيث يتعامل في الأول مع القاعة والطلاب وتصحيح أوراق الاختبار وتقويم التكليفات والبحوث القصيرة، إضافة إلى التوجيه العلمي والتربوي لمن هم في بدايات التعليم الجامعي أو بدايات دراساتهم العليا، ويتعامل في الثاني مع الأفكار الإبداعية للبحوث العلمية واختيار الموضوعات المتميزة، والتعامل مع المصادر والمراجع والمكتبات، وتدوين النتائج والتوصيات، والحرص على التوثيق والالتزام بالمنهج العلمي لكتابة البحوث، والتعامل مع المجلات العلمية والنشر فيها والمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية المتصلة بتخصصه، وتحكيم البحوث ومناقشة الرسائل العلمية والإشراف عليها، وغير ذلك مما هو داخل في صميم عمله الأكاديمي.

هذا هو الأكاديمي الذي نعرفه، وهذه هي المهام والوظائف التي يُفترض أن يقوم بها، وهذه هي الأعمال المنتظرة منه، وهي التي تتبادر إلى الأذهان حين تسمع كلمة (أكاديمي) أو (أستاذ جامعي).. غير أنَّ من ينظر إلى واقع مؤسساتنا العلمية سيلحظ بأنَّ بعض الأكاديميين قد أعرض صفحاً عن هذه المهام، وقَبِل بالعمل الإداري، وراح يمارس هذه الوظيفة الجديدة التي تختلف اختلافاً كبيراً عن وظيفته الأساس، وبدأ يتعامل في عمله الجديد مع الصلاحيات والإجراءات والميزانية والصادر والوارد والمعاملات والخطابات والتقارير، والترقيات والمشتريات واللجان والمحاضر وغيرها مما لم يسمع به من قبل، وبعد أن كانت الساعات تنقضي وهو في مكتبه يستقبل الطلاب ويناقشهم ويجيب عن استفساراتهم، أو في قاعة الدراسة يلقي محاضراته أو في المكتبة يبحث عن مرجع لبحثه العلمي، أمسى الآن يقضي الوقت في المكتب مع مراجعين، أو في لجان واجتماعات لا تنقضي، أو منهمكاً في رحلة عمل، وأصبح جل وقته يتبخر بفعل كثرة الاتصالات والزيارات المكتبية، والمناسبات الرسمية البروتوكولية التي لم يكن يعرفها ولا يميل إليها، مما قد يسبب له ضغوطاً لم يكن متعوداً عليها ولا مستعداً لها، وهو ما قد يوقع حياته العملية والخاصة محل ارتباك واضطراب دائمين.

ولا أعتقد أنَّ لأحدٍ اعتراضاً على أن يتولى الأكاديمي منصباً إدارياً من حيث المبدأ، فالجامعات تحتاج إلى كادر إداري متخصص كحاجتها إلى كادر أكاديمي، غير أنَّ الإشكال هنا هو حين يتخلى الأكاديمي تماماً عن وظيفته الأساس وينشغل بالعمل الإداري، فيغرق في بحره العميق، ويتعب ذهنه في مهامه، ويتيه في دهاليزه، وفي النهاية لا يُعلم هل ينجح فيه أو لا؟.. وإذا نجح فهل هو ذاك النجاح الأمثل؟.. وحتى إذا نجح فعلى حساب ماذا جاء هذا النجاح؟

إنَّ القريبين من العمل الإداري يعون تماماً الصعوبات التي تواجه هذا النوع من الأعمال، والوقت الذي يستغرقه الموظف في تنفيذ أمور مكتبية وإجرائية تحتاج إلى قدر كبير من المتابعة والتركيز، حتى إنَّ بعض الأعمال الإدارية تتطلب من الموظف العودة بها إلى المنزل لإنجازها وربما السهر عليها، بسبب كثرتها وضخامتها وحاجتها إلى سرعة الإنهاء، وإذا أُوكل إلى الأكاديمي عملٌ كهذا فكيف سيتمكن من العودة إلى شخصيته الأكاديمية؟.. وهل يمكن أن يجد وقتاً لإنجاز رسائله العلمية أو كتابة بحوثه؟.. وهل يمكن أن يكون على قدر كافٍ من التركيز في أثناء عمله البحثي وهو ينوء بأعباء هذا العمل الإداري الذي يلتهم وقته كما تلتهم النار الحطب؟

إنَّ الواقع يشهد بنجاح بعض الأكاديميين المتميزين في العمل الإداري، وإبداعهم فيه، بل كانوا مضرب مثل في إتقانه، غير أننا ينبغي ألا ننخدع بأنَّ هذا النجاح جاء بسبب التميز الأكاديمي، حيث لا أرى أيَّ علاقة بينه وبين التميز الإداري، وإنما جاء هذا النجاح بسبب توفيق الله عز وجل أولاً، ثم بسبب الموهبة التي يمتلكها لإدارة هذا النوع من الأعمال، والاستعداد النفسي لها، والقدرات الشخصية التي مُنحت له، والخبرة السابقة التي اكتسبها حين أُسند إليه شيءٌ من هذا الأعمال في وقت مضى، ولعل هذا ما يُفسِّر فشل بعض الأكاديميين في العمل الإداري، حيث يعتقد أنه بتميزه الأكاديمي قادرٌ على ممارسة هذا النوع من الأعمال والنجاح فيه، بيد أنه يكتشف في النهاية عجزه عن ذلك، ويعي تماماً بأنَّ ما لديه من إمكاناتٍ وصفاتٍ تتناسب مع الجوِّ الأكاديمي وليس الإداري.

أعتقد أنَّ مكمن الخطأ في هذه القضية هو الربط بين النجاح الأكاديمي والنجاح الإداري، وتوهُّم أنَّ كل مَن تمكَّن من التميز أكاديمياً قادرٌ على التميز إدارياً، وإذا أضحى هذا الربط معياراً لتعيين الأكاديمي في منصبٍ إداري فإننا بذلك نكون قد أوقعنا أنفسنا في ثلاثة مآزق؛ الأول: أننا قد نضع في الإدارة مَن ليس مؤهلاً لها، وغير قادر على الالتزام بمتطلباتها، مما يؤدي إلى تعطل كثير من المصالح في المؤسسة التعليمية، الثاني: أننا أبعدنا أكاديمياً عن مجال عمله الذي أبدع فيه، وسرقنا تميزه في تخصصه العلمي واهتمامه الأكاديمي ودفعنا به إلى مجالٍ لم يُخلق له، ولم يهيأ لمواجهته، ففقدنا بذلك لبنة مهمة كانت ستفيد كثيراً ذلك القسم العلمي الذي ينتسب إليه لو بقي فيه، الثالث: أننا أسهمنا في تأخر أو تعطل إنجاز هذا الأكاديمي لرسالته العلمية أو كتابة بحوثه التخصصية التي يسعى من خلالها إلى الترقية، ولعلَّ هذا ما يُفسِّر بقاء كثير من الأكاديميين على درجة متدنية في السلم الأكاديمي مع أنه بلغ من العمر عتيا.

إني أعي تماماً حاجة المؤسسات التعليمية إلى أكاديميين يديرون وكالاتها وعماداتها وكلياتها وأقسامها، وأعي أيضاً أنه لا يصلح إطلاقاً أن يتولى بعض هذه المناصب إداريٌّ لا علاقة له بتخصص أكاديمي، لكن على قيادات المؤسسات التعليمية أن تعي تماماً خطورة مثل هذه المآزق، وأن يكون لديها معايير واضحة لاختيار الأكاديمي وتكليفه بعمل إداري معين، كما يجب أن يتأكد أصحاب القرار من مناسبة تعيين الأكاديمي للمنصب الإداري، ويتنبهوا إلى أنه ليس شرطاً أن يكون الأكاديمي الذي لديه مهارة في الإدارة قادراً على تولي جميع المناصب الإدارية، لأنه قد يصلح لعمل دون آخر، كما أنَّ على المؤسسات أن تهيئ أكاديمييها للعمل الإداري قبل أن تدفع بهم إليه، وذلك من خلال عقد الدورات التدريبية والتثقيفية التي قد تساعد نوعاً ما في تكوين الاستعداد الذهني والنفسي لهذا النوع من الأعمال.

Omar1401@gmail.com

- عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

مقالات أخرى للكاتب