(بيني وبين أستاذي أبي أوس)

نشر الملحق الثقافي في صحيفة الجزيرة مقالين لأستاذنا الدكتور أبي أوس الشمسان يوم السبت 6 - 10 -1435 هـ تحت عنوان (معاني الكلام في النظرية النحوية) ويوم السبت 13 - 10 - 1435 هـ تحت عنوان (أعطِ الفقير درهمًا وإن شتمك) قد تناول فيهما جوانب مختلفة في كتابي (منزلة معاني الكلام في النظرية النحوية العربية: مقاربة تداولية)، وأشكر لأستاذي أبي أوس هذا الحيز الذي منحني إياه في مقالاته، ووقته مقوِّمًا ما كتبتُ، وموجِّهًا إلى قضايا علمية قد أفدتُ منها، وموضِّحًا آراءه، واجتهاداته الجادَّة..

وليسمح لي بعد احتفائي بما كتب أنْ أوضِّح رأيي في بعض ما طرح مبتدئًا بإيضاح القضايا التي طرحها في مقالته الأولى، ثم الانتقال إلى مسألة (أعط الفقير درهمًا وإن شتمك) التي ناقشها في مقالته الثانية.

اعترض أستاذنا على عنوان الدراسة مقترحًا أن يكون عنوانها (منزلة المعنى في النظرية النحوية)، ولا أوافقه فيما ذهب إليه؛ لأن الدراسة حينئذٍ سوف تنفتح على قضايا متشعبة لم تقصد أن تتناولها، فثمة أنواع من المعنى، منها: المعنى الصرفي، والمعنى النحوي، والمعنى المعجمي، والمعنى المقامي. وليس تناول هذه القضايا بطموح للباحث في دراسته؛ لذلك ستقع الدراسة حينئذٍ في إشكالية كون العنوان غيركاشف عن مضمون الدراسة، وألفت إلى أن ثمة دراسة جادة للباحثة لطيفة النجار عنوانها (منزلة المعنى في نظرية النحو العربي) يتبين لقارئها أنها تسير في اتجاه آخر مختلف عن (منزلة معاني الكلام في النظرية النحوية العربية).

وأما ما ذكره أن المقاربة التداولية لم تظهر بما يقنع القارئ، فالمسار الذي نزل الباحث دراسته فيها يجب أن يحاكم إليه لا إلى غيره؛ إذ إن الباحث قد أراد أن يدخل في عمق التراث النحوي مُفتِّشًا في قضاياه المتعددة، ومُعملاً أدواته التداولية في إعادة قراءة النصوص النحوية محاولاً«اكتشاف الأصول النظرية لمعاني الكلام، والكشف عن آلية اشتغالها من خلال تأمل نصوص القدماء، وبيان آثار هذه الأصول والمبادئ في التقعيد النحوي في أبوابه المختلفة» وقد كان منطلقه في هذا فرضية تتلخص في كون معاني الكلام في العربية مناظرة لمفهوم الأعمال اللغوية عند (أوستين، وسيرل)، فهذا تفسير الصلة بين الدراسة والتداولية.

وقد ذكر أستاذنا أن النحويين استغلوا معاني الكلام لرأب صدوع يواجهونها في النظرية النحوية، فظاهر الأمر رعاية المعنى وباطنه رعاية الشكل، واستشهد بإحدى القضايا التي تناولتها الدراسة، وهي مسألة القطع في النعت قائلا: «فمحاولة تفسير الإعراب هي التي جعلتهم يفترضون عاملاً أحدث هذا التغير الإعرابي، وهو أمر يجعل النعت من عناصر جملة أخرى، وهذا في رأيي معاند لمقصد المتكلم الذي لا يعدو مدح الفاعل بوصفه بالكرم» وأقول: يجب هنا أن نستحضر التمييز بين اللغة الواصفة واللغة الموصوفة، فالعربي عليه أن يقول الكلام، وعلى النحوي أن يفسره بما يضفي عليه التناسق، تدلُّ على هذا لفتة طريفة أوردها ابن فارس أن بعض الأعراب «قيل له: أتهمز إسرائيل؟ فقال: إني إذن لرجل سوء ... وقيل لآخر: أتجر فلسطين؟ فقال: إني إذن لقوي» (الصاحبي ص11) إنَّ افتراضات النحوي، ومصطلحاته التي هي أداة من أهم أدواته التفسيرية لنظام اللغة غير حاضرة في ذهن العربي الأول، أو المتكلم باللغة بمقتضى هذا التمييز بين مستويي اللغة الواصفة واللغة الموصوفة.

وتساءل شيخنا عن المراد بـ(النظرية النحوية)؛ لأنه عرف في التراث نظريتين مهمتين: نظرية العامل، ونظرية النظم. وأجيب: إن النحو العربي قد بلغ قدرًا عاليًا من التجريد والصرامة والتناسق يكشف عن نظرية واضحة المعالم في هذا التراث، وقد تبنّى هذا الرأي عدد من الباحثين في العالم العربي، منهم: محمد صلاح الدين الشريف، ومحمد الشاوش، وخالد ميلاد.

ثم أشار أستاذنا إلى العلاقة بين التراث النحوي واللسانيات قائلاً:«من المحزن أن تعلق قيمة التراث بمدى قربه من اللسانيات لا أن تعلق بتاريخه المتواصل».

أقول: كان لعلم اللسانيات المهتم بالبحث في المبادئ النظرية لوصف الألسنة البشرية وصفًا علميًّا سلطةٌ لا تخفى في توجيه القراءات المتنوعة للتراث النحوي بين ناقدٍ له، ومبينٍ متانته وقيمته، وقد أصبح لهذا العلم سيادة عالمية؛ لأنه علم كوني يستمدُّ مفاهيمه النظرية، وتمييزاته المنهجية مما يجدُّ في فلسفة العلم التي كانت تمدُّ العلوم المختلفة بالمبادئ الملائمة للدراسة العلمية وما زالت، ولا يليق بتراثنا النحوي أن يبقى في معزل عن الحوار المحايد مع مكتشفات هذا العلم؛ إذ إنَّ هذه المبادئ تُمكِّنُ الباحث من أدوات معرفية تمنحه القدرة على إعادة اكتشاف نصوص القدماء، واستطراف وجوه من تحليلاتهم، وتقعيداتهم، وتبيُّن موضع النحو العربي بين الأنحاء القديمة، وإن الاعتزاز بما تركه لنا علماؤنا هو الدافع الرئيس لدخول هذا السجال العلمي بين الأصالة والمعاصرة، والدراسات التي تنزِّل نفسها في هذه الدائرة أكثر من أن تحصى، حيث قدَّمت تلك الدراسات أدلَّة مدعَّمة بالمفاهيم اللسانية تثبت علو شأن النحو العربي من لدن سيبويه ومدى توفيق النحويين في وصف لسانهم وتفسير نظامه، كما بيَّن هذا النوع من الدراسة غياب جملة من التمييزات المنهجية المهمة في الدراسة اللغوية عن نقود بعض المحدثين للنحو العربي مما جعلهم يدعون إلى تجديد النحو، أو إحيائه، أو استبدال نظريات جديدة بالنظريات التراثية التي قام عليها النحو العربي.

ثم قال أستاذنا: «إنما قيمة هذا التراث في أنه مهاد نظري متين؛ ولكنه بحاجة إلى أن نصقله ونعيد النظر فيه ليكون صالحًا لتعليم اللغة تعليمًا يجمع بين الوضوح والدقة والسهولة».

أظنُّ أنَّ الفصل بين الدرس النحوي الذي ينظر إلى اللغة نظرة شمولية فلسفية تهدف إلى كشف ما يبدو مشتتًا من ظواهرها المختلفة لينتظم في قواعد تضبطه وبين الدرس الذي يهدف إلى تسهيل اللغة على المتعلمين، وتقريبها من أذهانهم، أقول: إن هذا الفصل بين موضوعين مختلفين للعلم أمرٌ مهمٌّ لأنه فصلٌ منهجيٌّ يردُّ كثيرًا من الطعون الموجهة إلى النحو العربي؛ لأنه نحوٌ قد وضعه المحققون من علمائه لكشف نظام العربية المتخفي خلف ظواهرها المختلفة، وتفسيره؛ فلا يصح النظر إليه باعتباره نحوًا قد وُضع لتعليم اللغة، ثم محاكمته وفق ما يقتضيه التعليم من سهولة على المتعلمين، إنما تكون المحاكمة للنحو العربي وفق شروط النظرية العلمية: اتساق القواعد، وشمولها، والاقتصاد في صياغتها. أما النظر في سهولة اللغة على المتعلمين فهو موضوع لعلم آخر هو علم مناهج تدريس اللغة العربية, ولا صلة لهذا بالنحو العلمي الذي هو تنظير وتفسير واتساق.

وقبلها أشار إلى أن القطيعة بين التراث النحوي العربي واللسانيات لا تعيبه حتى نفتش في جوانبه عما يجعلنا نعلقه بنظريات لغوية ما فتئت تنسخ الواحدة منها أختها. وأقول: إن تطور النظريات اللسانية، ونسخ بعضها بعضًا نتيجة حتميَّة لمسلَّمةٍ من مسلمات المعرفة، وهي أن المعرفة متطورة غير قارّة، ولو قلنا بغير هذا لاستلزم منه توقف المعرفة في مرحلة متقدمة من تاريخ البشرية.

بعد هذا أنتقل إلى المقالة الثانية التي ناقش فيها شيخنا مسألة (أعطِ الفقير درهمًا وإن شتمك) مبتدئًا الحوار بنقل نصِّ د.أبي أوس في كتابه (الجملة الشرطية عند النحاة العرب ص355) لاستيضاح دوافعه العلمية في رأيه: «وكان يمكن الاستغناء عن القول بالحذف (أي حذف جواب الشرط إذا توسطت الأداة وجاء بعدها فعل الشرط) لولا اعتقاد النحاة أنَّ الأداة لا تأتي إلا في الجملة الشرطية الجزائية، بمعنى أنهم لا يستسيغون ورود عبارة شرطية بدون عبارة جوابية. وقالوا بالحذف من أجل المحافظة على الرتبة في الجملة الشرطية. وإذا نظرنا إلى الحالات التي يقال إنها محذوفة لدليل أو لوجود ما يسد مسد الجواب نجد أنها تبرير للقواعد النحوية وليس حذفًا لغويًّا حقيقيًّا، فالأداة إذا توسطت يكون لدينا عبارة شرطية لا تتبعها عبارة جوابية فلابد من اعتبارما قبلها جوابًا، وهذا غير وارد لديهم لأن الجواب لا يقدم على الشرط لأنه تابع له ومسبب عنه، ولأنه لو كان جوابًا لصلح دخول الفاء عليه، هذه هي حججهم، وهناك اعتبار آخر وهو أن العبارة الشرطية ترد أحيانًا بدون عبارة جوابية وهذا أمر لم يعرفوه، فليس في عرفهم إلا شرط له جواب وإذن فلا مفر من اعتبار الجواب محذوفًا، وبهذا يسلم للجملة الشرطية لديهم تركيبها النظري»

يتكئ أستاذنا على الصورة التركيبية المنجزة في رفضه لتحليل بعض النحويين لهذا التركيب ذاهبًا إلى أنَّ تقديرهم للجواب دافعهم إليه الحفاظ على سلامة القاعدة النحوية التي وضعوها، وليس حذفًا لغويًّا حقيقيًّا. ولقد كان هذا الاتجاه الوصفي من البحث الذي يرفض بعض مظاهر الحذف، أو التقدير له حضورٌ في قراءة بعض المحدثين للنحو العربي، وهم أعلام لهم إسهام جليل في قراءة جهود النحويين القدماء، وبيان وجوه المتانة، أو الضعف في دراستهم وفق رؤيتهم النظرية التي ينطلقون منها في مرحلتهم التاريخية، وقد كان من سمات منهجهم احتفاؤهم بالمتن اللغوي الذي يؤول إلى رفض بعض جوانب التقدير، أو الحذف الذي قال به النحويون حفاظًا على المتن اللغوي. ويبدو هذا المنهج متأثِّرًا باللسانيات البنيوية التي كانت لها سيادة في مرحلة تاريخية ماضية، ويتميز هذا الاتجاه بالاحتفاء بالبنية اللغوية المنجزة؛ إذ يلحُّ (دي سوسير) رائده على أنَّ اللسان يجب أن يدرس في ذاته، ومن أجل ذاته؛ لذلك يجب أن يستبعد دارس اللغة أية نظرة مسبقة، أو رأي شخصي، أو تأمل خيالي.

ولكنَّ التطورات في ساحة البحث اللساني المرتكزة على تطورات الفلسفة الحديثة قد تنكَّبت بعضًا من مبادئ الدراسة اللسانية التي كانت سائدة في المرحلة الوصفية؛ إذ إن اللسانيات التوليدية بمناويلها المتعددة الممثلة للفلسفة العقلانية قد تمسكت بمناهج الافتراض، والاستنباط؛ لأن النظرية المتوصل إليها عن طريق استقراء الوقائع نظرية لا يمكنها أن تتنبأ بالوقائع المحتملة، فالحقيقة عندهم مخبأة خلف الظواهر، وليست مودعة على سطوحها الخارجية. (محمد العمري:الأسس الإبستمولوجية للنظرية اللسانية ص28-32).

وتعيدُ هذه التطورات العلمية التي شهدها علم اللسانيات مع (تشومسكي)، وغيره الاعتبار لكثير من المظاهر التي وُجدت في النحو العربي، منها: الحذف، والتقدير، وغيرهما؛ لأنها أصبحت فرضيات يقرُّ بها اللساني في دراسته للألسنة البشرية؛ لقدرتها على تفسير جملة من الظواهر اللغوية رغم تنكرها عند اللسانيين بمصطلحات حديثة من قبيل: البنية العميقة، والبنية السطحية، أو القدرة، والإنجاز، ونحوهما.

أنتقل الآن إلى مناقشة المسألة عينها؛ إذ ذهب أستاذنا إلى أنَّ معنى قولهم: أعطِ الفقير درهمًا وإن شتمك (( أعطِ الفقير درهمًا رغم شتيمته لك. وقد سمَّى (الواو) الداخلة على أداة الشرط (واوَ الرغم) رافضًا تقدير جواب لفعل الشرط مدلول عليه بما قبله، بل هي عنده عبارة شرطية قيدية للكلام قبلها غير مقدَّرٍ فيها جوابٌ للشرط.

وأُجملُ رأيي في النقاط الآتية:

أولاً: إنَّ حملَ التركيب مدار الحوار على معنى: أعطِ الفقير درهمًا رغم شتيمته لك، فيه نظر من جانب التناظر الدلالي بين التركيبين ولاسيما أنه ذهب إلى أن القول بالاعتراضية لا يبين معناها، وإيضاحًا للاعتراض أدقق دلالة التركيبين مستعينًا بمفهوم الإحالة؛ إذ الغالب في استعمال (رغم) أنَّ ما بعدها متحقق موجود في جانبه الإحالي في العالم الخارجي، فحين يقال: أعطِ الفقير درهمًا رغم شتيمته لك، تكون الشتيمة متحققة للمخاطب زمن الخطاب. أما في التركيب مدار الحوار: أعطِ الفقير درهمًا وإنْ شتمك، فإنَّ ما بعد أداة الشرط لا يفيد معنى التحقق في جانبه الإحالي في العالم الخارجي ضرورة، يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأنَّ رأسه زبيبة» فما ورد بعد أداة الشرط غير متحقق في العالم الخارجي زمن الخطاب، إنما هو تمثيل متصور في ذهن المخاطب يؤتى به توكيدًا لمضمون الكلام الأول من خلال تمثيل واقعة متصورة ليس لها وجود في العالم الخارجي غالبًا قد يظن المخاطب أنها صارفة لحقيقة الأمر المتقدم على أداة الشرط بالتنصيص من الآمر على مقتضى كلامه الأول، وتثبيته في نفس مخاطبه، ومثل هذا قولهم: اطلبوا العلم ولو بالصين؛ فالعلم في زمن الخطاب ليس متحقِّقًا إحاليًّا في الصين، وإنما القصد توكيد الأمر بطلب العلم من خلال تمثيل واقعة متصورة ليس لها تحقق في العالم الخارجي قد يظن المخاطب أنها صارفة لحقيقة الأمر (كون العلم في الصين تحقيقًا لدرجة قصوى في المناقضة مع الأمر الأول السابق لأداة الشرط)، ولا أرى أنه يستقيم أن يقال: إن المعنى المراد: اطلبوا العلم رغم كونه بالصين. وحين نتأمل نوع (أل) في كلمة (الفقير، أو العلم، أو الأمير) المقدرة في الحديث نجد أنها للجنس، ويُمحِّضها هذا في الخطاب إلى النصح والتوجيه، ولا يكون هذا إلا في المستقبل.

ثانيًا: إنَّ قول أستاذنا عن تصور النحويين لتركيب الشرط: «هناك اعتبارآخر وهو أن العبارة الشرطية ترد أحيانًا بدون عبارة جوابية وهذا أمر لم يعرفوه، فليس في عرفهم إلا شرط له جواب» يقتضي منا التأمل في الخلفيات النظرية لأقوال علمائنا؛ إذ إنَّ جعل النحويين جواب الشرط مقدَّرًا تمثُّلٌ منهجيٌّ لما تلحُّ عليه الدراسة اللسانية من التمييز بين اللغة الواصفة، واللغة الموصوفة، فليس هناك تناظرٌ في فلسفة العلم بين المعطيات المادية، والتناول العلمي لهذه المعطيات، وهذا في شأن اللغة أمر عسير، فـ«إن الكلام على الكلام صعبٌ ... ولهذا شقَّ النحو» (التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة ص249) فالدراسة العلمية لنظام اللغة لا يلزم منها أن تكون انعكاسًا للوقائع اللغوية؛ لذلك فإنَّ من أهمِّ مبادئ الدراسة اللغوية الفصل المنهجي بين هذين المستويين، وقد تعددت عبارات سيبويه الدالة على وعيه إجرائيًّا بهذا التمييز: «فهذا تمثيل ولم يتكلم به» ، «هذا لا يتكلم به ولكنه تمثيل» ، «هذا تمثيل يمثل به» (الكتاب 1-15، 74، 323).

وأضيف أنَّ تقدير الجواب عند النحويين يضرب في صميم تحقيق شروط النظرية العلمية: الاتساق، والشمول، والاقتصاد في الصياغة، فالتقدير وسيلة من الوسائل التي كان يلجأ إليها النحويون لتحقيق الاقتصاد في قواعدهم، وإلا لأصبحت قواعد اللغة عندهم مساوية لعدد ظواهرها المختلفة، كما فعل بعض الوصفيين في تقسيم الجملة إذ شعبوها من صنفين إلى أصناف كثيرة: جملة اسمية، وجملة فعلية، وجملة ظرفية، وجملة وصفية، وجملة ذات إسناد واحد، وجملة غير إسنادية، وكذلك فعلوا في أقسام الكلم. ويلحظ المتأمل أن هذا الاقتصاد في صياغة القواعد هدفٌ حاول نحويو البصرة تحقيقه، أما نحويو الكوفة فقد كانوا في مرتبة أدنى منهم؛ لأنهم يقعدون بالشواهد القليلة.

ويؤيد ما ذهب إليه النحويون في تجريدهم للتركيب مدار الحوار التصريح بلفظ جواب الشرط في شاهد آخر هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة بعد سؤاله إياه: ما أصنع إن أدركت الأئمة الذين لا يهتدون بهديك؟: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع» (صحيح مسلم 6-20)

فظهور الجواب في هذا النص يدعم قول النحويين بتقدير الجواب في الظواهر اللغوية الأخرى التي لم نجد للجواب وجودًا في البنية المنجزة، ويحقق ما ذهبوا إليه شروط النظرية العلمية؛ إذ يمنح القاعدة اتساقًا منطقيًّا، شاملاً قدرًا كبيرًا من المعطيات اللغوية، في أقل عدد من القواعد الضابطة للظواهر اللغوية المختلفة.

- معاذ الدخيل