شعر

قَال مِحْرابُنا في رَحيلِ الإمام

إلى رُوحِ قمرِ الإذاعيين وشمسهم الراحل الكبير أ. د. محمد زهير بن عبدالوهاب الأيوبي(*)

فاتحة:

إِذَا وَلَّى نَضَارُكَ يا فَضَاءُ

وأَقْفَرَ فيكَ ما زَرَعَ الرَّجَاءُ..

فما للبَثّ من أَمَل وبُشْرى

ولا عَوَضٍ.. فقد كُسِفَ الضيّاءُ..

وما يُجْدى بليلِ الفَقْدِ صوتٌ

فقد أكدى على الجَزَعِ البُكاءُ..

وليسَ لِمُوجِعِ الكلمات نَبْضٌ

إذَا كَبُرَ الأَسَى كَسَدَ الرثاءُ..

بِحَقّ اللهِ.. لا تُسْرِفْ بحُزْنٍ..

فَمَوْتُ الرّمز لَيْسَ له عَزَاءُ..

ولكنْ في فَمِ الذكْرى أنين

تُسَطّرُهُ السّريرةُ والوَفَاءُ..

وفي صَمْتِ المَوَاجِدِ ألفُ نعيٍ

تُسَجّلُهُ المَحَبَّةُ والوَلاَءُ..

تَضَاءَلَ مَشْهَدُ التأبينِ حَتى..

تَوَرَّدَ في تَوَاضُعِهِ الحَيَاءُ..

سُرَادِقُهُ يُعيد كَفَيْلَسُوفٍ..

مُحَصّلَةً تنكّبَها العَفَاءُ..

إذَا فُجعَ المُحِبُّ برُوح قَلْبٍ

فَقَلْبُ الرُّوح أَسْلَمَهُ الفِدَاءُ..

وإنْ ذُرِعَتْ فَرَائصُنا بذَعرٍ

فقد عَزّ التّماثلُ والشّفاءُ..

وحقِّ الله ما هَذَا قُنُوطٌ..

ولكنْ فَاضَ في دَمِنَا الشَّقَاءُ

وخِفْنا أَنْ نكونَ قد ابْتُلينا..

وقد بَخِلَتْ عَلَى الأرضِ السَّمَاءُ..

مَقَام:

أَيُّهذا التّقِيُّ..

النقيُّ..

العَفِيفُ

الأَصِيلْ..

أَيُّهذا

الحبيبُ..

اللبيبُ..

النظيف

الجليلْ..

كيف يَفْجَؤُني

فيك..

هذا الفراق الطَّويلٌ؟

كيف يأخذكَ القَدَرُ المستبدُّ

بأعمارنا..

دُونَ أَنْ أَسْتَفِيضَ..

إلى مجلسٍ..

أنت فيه الجَلاَلُ

وأنت الجَمَالُ..

وأنت الصباحُ..

المُوَشَّى..

بعذْبِ الهُطُولْ..؟

كيفَ يأخذُكَ المَوْرِدُ الأَزَليُّ..

وأَنْوَاؤُهُ

دُونَ أَنْ أَتَفَيَّأَ

ذا المُلْتَقَى..

وأُصَافِحَ كفَّكَ مغتبطاً..

وأَشُدَّ عليها..

ولا أَدَعَ الوُدَّ بَعْدُ..

يُوَدِّعُني..

صَوْبَ غيركَ..

مكتفياً يالذي..

يَصْطفيهِ الخليلُ..

لوَجْدِ الخليلْ..؟

كيف يَخْطَفُكَ المَوْعدُ الأَبَديُّ..

إلى سَفَرٍ وصُدُودْ..

دُوْنَ أَنْ أَتَجَلّى..

وأطبعَ قُبْلَةً حبٍّ عتيقٍ..

على جَبْهَةٍ..

قد رَوَاهَا البَهَاءُ..

وفيضُ النقاءِ..

وعِزّةُ ذَاتِ امْرىءٍ

من خَلاَقٍ..

ومَنْطَلَقٍ لا يَهُونُ..

وجَلَّلَهَا..

طولُ ذاكَ السجودْ؟

كيفَ صِرْتُ

بدُونِ وُجُودٍ

فلا أَصْطَفِيكَ

إلى ضَمّةٍ هي لونُ وطعمُ وطيبُ الوُجُودْ..

يَسْتَرِدُّ بها القلبُ..

والروحُ..

والعمرُ..

ما فاتَهُ..

من كريم الوَفَاءِ

وحُسْنِ الوُفُودْ؟

كيفَ أُبْتُ..

إلى أَمَدٍ مِنْ هَبَاءٍ..

بِلاَ نَاظِرَيْكَ..

وَنُبلِ الدموعِ..

وصدقِ الدّعاءِ

وطيبِ العُهُودْ؟

أَيُّها المُتَلَفّعُ..

بالعَبَراتِ

وفَيْضِ الرَّجاءِ

وتقوى الشهودْ:

في رَحيلكَ

أَسْلَمَنَا جَلَدٌ لا يعودُ

فمثلُكَ..

قَلَّ لفَيْضِ الزّمانِ

به..

أَنْ يجودْ..

إنّك النّادِرُ المستكنُّ بجملتِهِ..

في حِمَى المُسْتَحيلِ الّذي قد تَوَارَى..

وليس له

مِنْ حُضُورٍ..

سوى..

أَنْ يكبّرَ..

ثم..

يَخُطُّ مَسَاكِبَ ذكرِكَ مُـحْتَفِياً..

بِمِدَادِ البهاءِ..

ونُورِالخُلُودْ..

يا أبا المَجْدِ:

عُمْرُكَ..

كان لنا..

مِنْحةً.. ووُجُودْ..

بَارَكَتْنا..

وكانت لَنَا نَهْرَ عزٍّ

وكانتْ عَزَاءً

ومَلْحَمَةً مِنْ صُمُودْ

ثمَّ..

إذْ لَوَّحَتْ قَسَمَاتُكَ..

مؤذنَةً بالشَّتَاتِ..

تَعَقَّبَنا الحالُ

يُنْذِرُ مُحْتَدِمَا

بانقراضٍ..

وعُقْبى يَبَابْ..

كنتَ نجمَ إذاعتِنَا.. ألفَ عودٍ بعينِ الحَسُودْ..

قمراً لا يغيبُ بتلفازنا إذْ تَوَزَّعَ فيه الغيابْ..

كُنْتَ شَمْساً لإعلامِنَا ما اكتَفَتْ بالشُّرُوقْ..

وسواكَ..

كواكبُ تَعْشُو..

ولا تَسْتَفيقْ..

قال لي عهدُنا المتجذّرُ..

في نَشْرةٍ تَسْتَغِيثُ

وفي فترةٍ تَسْتَعيذُ..

وفي صَدْمةٍ مِنْ حوارْ..

قال لي:

أين ذاك الذي..

يُشْرِقُ الليلُ منهُ..

وتَنْدى بِهِ شُرُفاتُ النهارْ؟

كيفَ من دُونِهِ..

كيفَ من بعدِهِ..

كيفَ تَحْظى إذاعتُنا

بِمَبَاهِجِ صَوْتٍ..

هو العَسَلُ الجبليُّ..

وذَوْبُ الحليبِ..

وَمَا يَمْنَحُ الهيلُ للزّنجبيلْ..

يَتَنَزَّلُ في لُغَةٍ لا تُضَاهى..

وفي سُلّمٍ من أداءٍ مَهِيبٍ..

وفي عُرَبٍ

لا تُغَادِرُها سَكْرَةٌ وانْبهارْ..

كيفَ يَظْفَرُ تلفازُنا..

بمَلاَكٍ..

يُبدّدُ في غُرَفِ البثّ وَحْشَتَهَا

ويُعِيدُ إلى قَسَمَاتِ البرامج فِتْنَتَها..

وإلى النّشَرَاتِ التي قد ثَوَتْ..

مَجْدَهَا

ويرتبُ هَيْبَتَها..؟..

قال لي حَزَني الطّاغي..

قال لي أَسَفِي الباغي..

ثم إذْ لم أَجِدْ للمَقَادير مَعْذِرَةً..

هلَّ كَوْنٌ من الحَسَراتِ..

ولهفتِها..

ثم إذْ لم أُجِبْ..

وَتَلَقِّفَنِي صَمتُ هذا الفِرَ اقْ..

قال لي همُّ هذا السّياقْ:

كيف نَحْظى إذاً..

بالمُذيع المُذيع..

الذي يملأُ القلبَ والعينَ

يجعلُ منكَ انْتِشَاءً فريداً..

وأنّ الّذي قد تَلَقَّيْتَ مَفْخَرَةٌ

قَبْلَ أَنْ تَتَجَلّى بمَقْعَدِكَ المُسْتَثَارِ

وتُدْرِكَ أَنّك نخلةُ مَجْدٍ

يُبَاكِرُها عَرْفُ وُدٍّ..

وعطرُ انتماءٍ عتيقٍ..

ونجوى تَلاَقْ..

وتُعانِقُها..

نَفَحَاتُ انْعِتَاقْ..

يا أَبَا المَجْدِ

يا رمزَنَا..

مثلما..

قد تَعَلّمْتُ منكَ..

سياقَ المذيعِ..

ونعتَ المذيعِ..

وحالَ المُذيعِ..

وكيفَ يكونُ الأَدَاءُ

مُعَلَّقَةً..

من ربيعْ..

ها.. أنا..

أَتَعلّمُ منكَ..

جلالَ الرحيلْ..

أَيُّها المُستحيلُ

الذي..

قد رَوَاهُ..

وخَلَّدَهُ المستحيلْ..

كَتَبَ الصَّمُتُ مِنْكَ قصيدتَهُ..

رَسَمَ الصَّبرُ فيكَ جِداريةً

من بَلاَءْ..

قالَ ليلُ العزوفِ:

لقد كانَ مُنْجَدِلاً..

بين صَمْتٍ عزيزٍ

وصَبْرٍ جميلْ..

قال سِفْرُ الجَزَاءِ..:

وربّكَ..

نعلم.. حقاً..

وصدقاً..

وعينَ اليقينِ..:

لقد فَاضَ صبراً..

على كدَمَات العُقُوقِ..

وفَاضَ احْتِمَالاً..

على غَدْرِ مَن قَاسَمُوهُ

دُرُوبَ الكِفَاحِ..

وآثَرَهُمْ بضُرُوبِ العَطَاءْ..

قال فجرُ الإباءْ:

وبِرَغْم مَقِيتِ التَّجَارِبِ..

مثل مكَيدة نَزْعِ الشّرِيكِ..

أَشَاحَ بُنبْلٍ غريبٍ

فَلاَ انْثَالَ مُنْتَقِماً..

ولم تَنْفَلِتْ منهُ سَوْرَةُ غَمٍّ

ولا اهْتَمَّ: كيفَ يكونً السَّدَادْ

ولقد كانَ يُدْرِكُ في صَمْتهِ..

ولقد كانَ يَعْرِفُ في صَبْرِهِ..

أنَّهُ لا مَرَدَّ

إلى فُسْحَةٍ من أَمَلْ..

إذْ تَردّى سِياقُ السُّرَى والعَمَلْ..

بعد أَنْ خانَهُ الصَّحْبُ

والطّمَعُ الأزليُّ..

ونِسْيَانُ ما يحتويهِ الأَجَلْ..

يا لَذَاكَ المِدَادْ..

يا لَذَاكَ السّجلّ

الذي حُفِظَتْ فيه أَوْضَارُهمْ..

يا لَذاكَ النَّضَارْ..

يا لَذَاكَ الكتابِ..

الذي سُطِّرَتْ فيه سِيرَةُ هذا العِمَادْ..

قُلْتُ: إنَّهُ مَوْعدُ مُفْتَرَقٍ

بين مَنْ عاشَ في النُّور مُنْتَصِباً..

والّذي..

مات في حِمَمٍ

من رَمَادْ..

كُلَّمَا..

أَقْفَرَ الزمنُ المُتَحَوِّلُ..

صوب البَلاَءِ..

وأمحلَ فينا..

مكانٌ..

نحايلُهُ أَنْ يكُونَ المآبْ..

وأَظَلَّ مواهبَنَا..

هَدَرٌ.. واستلابْ..

رُحْتُ..

أَسْتَحْضِرُ الزّمنَ المُسْتَطَابَ

الذي ضَمَّ ما رَاقَ فيكَ..

وَمَا شَعَّ مِنْكَ..

وما شَاعَ عَنْكَ..

لِيَنْفَلِقَ الأُفْقُ

عن رَدَهَاتٍ عِتَاقٍ

وعَنْ ثُلَلٍ..

مِنْ مَبَاهجنا في (الزمان الجميل..)

وأنت بدون ارتيابْ..

وبدونِ منازعةٍ واقترابْ..

أنت سيدُ ذَاكَ الزَّمانِ..

وعرّابُ تلكَ الأَمَاكنِ

إذْ ضَلّ عنها انْزِيَاحُ السَّرَابْ..

سنَتُوقُ كثيراً

إلى.. نَشْوةٍ وانْسِجَامْ..

وإلى..

عُرَبٍ

هام فيها السَّماعُ بأحلى زِمَامْ..

وإلى..

نَبْرَةٍ..

زَانَها فِقْهُ تجويد تلكَ الحُرُوفِ..

ودَوْزَنَةِ الحركات..

وترتيل مُجْمَلِ مَا يَبْتَغِيهِ الكلامْ..

سَنَتُوقُ..

إلى..

أَوْجِ مُفْتَتَحٍ

وقَرَارِ خِتَامْ..

(يا سلامْ!!)..

لو تَبَقَّى لنا..

مِنْ مَزَامِيرِهِ سُلَّمٌ

ما تَوَشَّحَ تَوْقِيعَهُ..

غيرُ صَوْتِ الإِمَامْ..

إذْ يُهَادِي الأَدَاءَ..

إلى ثَبَجٍ في العَرُوضِ..

وقَافِ التَّمَامْ..

أَيُّها الراحل المُتَلَفّعُ..

بالرَّحَمَاتِ..

ومحض الرَّجَاءْ..:

سَنَمُرُّ كثيراً..

على شرفاتِ زَمَانِكَ..

إِذْ يَجْتِبينا الحنينْ

سَنَزُورُ مَنَابِتَ فَنّكَ..

إذْ نصطفي فتنةً للفنونْ..

ونُشَيِّدُ ذكرى جَمَالِكَ..

مَلْحَمَةً من وَفَاءْ..

ونُقِيمُ لفُقْدانِ حُسْنِكَ..

إِجْهَاشةً.. ودُعاءْ..

خاتمة:

قلتُ:

آهِ..

وآهِ..

وآهِ..

مُجَلَّلَةً باغترابُ..

ومُعَفّرَةً..

بثَرَى سَجْدَةٍ

واحْتِسَابْ

قلتُ:

لَيْسَ من السَّهْلِ..

يَا مُخْبِتاً

بِرُفاتِ مَبَاهجنا..

في مَنَافِي الطُّلولْ..

قُلتُ:

ليس من السَّهْلِ..

يا فِتْنَةَ الدَّرَجَاتِ العُلَى..

أَنْ نُوَاريَ تحتَ التّرابِ..

عَبَاقِرةً..

ثم نُبْلِسَ صُحْبَةَ إفْلاسِنَا..

لنُعَاقِرَ صمتاً..

عَلَى حَسَراتِ الترابْ).

الإثنين 12-10-1434

(*) انتقل إلى رحمة الله في الرياض يوم 8 ـ شوال - 1434 للهجرة

- عبدالله بن عبدالرحمن الزَّيد