09-09-2014

الهُويةُ بين الاسْتِبْطان والتَّشخْصُن 1-2!

الحديث عن [الهوية] بصفتها العامة حديث ذو ثلاث شعب:-

- شعبة التحرير المصطلحي.

- وشعبة المقتضيات، والمقاصد، والمحققات.

- وشعبة وسائل التكوين، وحواضنه.

ومن هذه الشعب تتعدد بنيات الطريق، لتصب في مفازات متباينة، منشؤها الاختلاف حول ضوابط الانتماء، ومشروعيته.

والمتحدث عن [الهوية] من حيثُ هي، تتراءى له سلطات ثلاث:-

- السلطة الدينية التي تبيح، وتحظر.

- والسلطة السياسية التي تَأْطُر، وتوجه، وتفسر المفاهيم، وتحددها.

- والسلطة المجتمعية التي تقبل، أو ترفض، وتمارس التطبيق.

وتلك السلطات الثلاث، قد تتطابق آراؤها، وتصوراتها. وقد تختلف اختلاف تنوع، أو تضاد، وقد يَحْتَدِم الخلاف فيما بينها، وقد تصطلح، وتتقاسم الأدوار، والمهمات. وقد تخفق، أو تنجح في إدارة الاختلاف.

والمواطن المسؤول المتلقي قد يكون مستوعباً، واعياً لهذا الاختلاف. أو ذلك الوفاق، أو جاهلاً بشيء من ذلك. وقد يكون مستحضراً للهوية، ومتطلبات تحقيقها أو فاعلاً من خلالها، دون استحضارها.

والهوية في حالاتها الطبيعية شعور كُموني يستبطنه الإنسان السوي، دون استحضار مُتَشَخْصن، كما النية التي لا يشترط فيها الجهر.

والظروف الاستثنائية ربما تفرض إعلانها، وفقاعة لونها، بحيث تفرض السلطة السياسية تحويلها إلى شعار معلن، يتلبس به المواطن، للحيلولة دون تداخل الولاءات، أو تنازعها.

والتقلبات السياسية تثير هذا الكمون، أو تطفئه، وقد تجعله حاد النبرة في حال، وخافت الصوت في أحوال أخرى.

وقد تمر الحياة دون استحضار للهوية، وذلك حين لا تكون هناك أزمات، أو توترات، تستدعي تكريس حضورها، لتصد أي انتماء دخيل، يقترف تصديع وحدة الأمة.

وعلى ضوء ذلك فإن استحضار الهوية تفرضه الظروف القائمة. والمعنيون بها يدركون متى يجب استحضارها، والسؤال عن مدى استيعابها.

ولقد تكون الهوية واحدة، أو متعددة. وأخطر إشكالياتها تزاحم الأقليات، وتحولها إلى جماعات ضاغطة، تساوم السلطة، وتقاسمها الأدوار.

ما سبق توطئة، أو مدخلاً، يسبق الحديث عن التحرير المصطلحي. واستحضاره يمثل العصف الذهني، المهيأ لاستقبال الرؤية المعرفية لتلك الظاهرة الحضارية.

وعندما نتجاوز التمهيد، نكون وجها لوجه أمام مصطلح مراوغ، يستعصي على السيطرة. فلفظ [الهوية] مشتق من [هُو]. على غرار [إسلامية] من الإسلام و[إنسانية] من الإنسان. وليست الإشكالية في الدلالة الوضعية، ولكنها في المفهوم المصطلحي، وشرعيته.

وبتخطي الدلالة: الوضعية، والمفهومية، نجد أن هوية الشيء تُحدَّدُ بالإجابة على سؤال:- [ماهو]، وتكون الهوية شخصية، وكيفية، ومنطقية، وفلسفية، وسياسية، وجمعية، وما لا حصر له من الصفات.

ولأن [الهوية] تَعْنِي الثبات على سِمَةٍ واحدة، فإن واجب الأمة أن تستوعب مكوناتها، ومحققاتها، بحيث لا تتعدد، ثم لا تكون فاعلة، ولا حامية. والتماثل الذي يتحفظ عليه بعض الفلاسفة، لا يمس الهوية بوحدتها، وثبوتها، لأن ذلك يعني السمة، والعلاقة، ولا يقيد الممارسة، ولا يلغي التباين. وليس هناك فرق بين الثبات، والوحدة، وكونها مادة دراسية، تسعى لتأصيلها وسائل التعليم، والإعلام، والثقافة، وبخاصة بعد ثورة الاتصال، والانفجار المعرفي، وتلاحق الثورات، وتنازع الملل والنحل، ودخول الأمة دوامة الفتن، واقتراف خطيئة تصدير الثورات، والمبادئ، والطائفيات.

والمتفق عليه أن الهوية مجموعة من السمات التي يتسم بها الإنسان. ولا أحد يستطيع تحديد هوية أمة ما، ما لم يتعرف على سماتها، وأنساقها، سواء كانت تاريخية، أو فكرية، أو اجتماعية.

فالأصول: تنطلق من الإنسان، بوصفه أمة من الأمم.

والأحداث: تنطلق من التحولات التاريخية.

والآثار: تنطلق من التلبس، كالعقائد، والعادات، وسائر الأنظمة، والثقافات.

وليس هناك تعارض بين الهوية العامة التي تجمع الإنسانية بمختلف مكوناتها. والهوية الخاصة التي ترتبط بصنف من الناس، داخل الأطر العامة. وهذا ما نريد التحدث عنه.

قد ينبري من يقول: إن الهوية يجب أن تكون [عَقَدِيَّة]، وهذا منزع أممي، تزل به الأقدام، وتضل به الأفهام، وهو قائم، لا يتعارض مع الهويات الأخرى، كالإقليمية، والجنسية، والسياسية.

والذين يصرون على [الهوية الأممية] يتصورون التعارض. فالسائد أن هناك هوية [إنسانية] فأنا إنسان بإزاء الأمم الأخرى:-

{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}

وهناك هوية [قومية] فأنا عربي، بإزاء أمم إنسانية، تنطق لغات متعددة، وتنتمي إلى قوميات متعددة.

وهناك هوية [سياسية] فأنا [سعودي] بإزاء أناسي، ينتمون إلى دول متعددة: عربية، وغير عربية.

وهناك هوية [إسلامية] فأنا مسلم بإزاء أناسي، ينتمون إلى ديانات أخرى.

وفي النهاية فالإنسان ضمن دوائر اندياحية، وليست متداخلة.

فـ[هويتي] الشخصية، تشتمل على اسمي، وأسرتي.

وهويتي الإسلامية تشتمل على عقيدتي. وهناك ملل، ونحل داخل الهوية الإسلامية، بحيث يكون هناك [الحنبلي] و[الحنفي] في الانتماء الفقهي. وهناك [الأشعري] و [السلفي] في الانتماء العقدي. وهناك [الصوفي] و[السني] في الانتماء السلوكي. وما لا نهاية داخل الانتماء الإسلامي.

وليس هناك تناقض، بقدر ما هنالك تعدد، لو أُحْسِنت إدارته، لأدى إلى التعدد المحقق للإثراء غير المحدد للواقع.

لقد كتبت عن [الهوية القاتلة] مقالاً نشر من قبل في جريدة [الجزيرة]، واتكأت في منطلقاتي على كتاب يحمل العنوان نفسه. لأن مؤلفه يستعرض الإخفاقات في إدارة الاختلاف، ولا يعترض على تنوع الهويات، سواء كانت قومية، أو دينية، أو قطرية.

وإذاً لابد من القبول بتعدد المسميات في إطار الهوية الجامعة المانعة. القبول الذي يؤصل، ويحرر، ولا يشتت.

ما نود الإشارة إليه قبل العودة إلى المتن، تقصي صراع الهويات، فيما بينها، حين تتماس، والصراع داخل الهوية الواحدة.

الأمة العربية في راهنها المأزوم، تتعرض للصِّراعَين. والصراع قد يكون محتملاً، حين يقتصر على الصراع الفكري. أما حين يتجاوزه إلى الصدام المسلح فإن الكارثة تتفاقم، ولا سيما حين يكون الصراع داخل الهوية الواحدة، وهو ما نشاهده في الوطن العربي بعد [الربيع العربي].

وحين تعيش الأمة العربية هذا الوضع غير السوي، يكون من أوجب الواجبات على الناجين من تلك الأوضاع التحرف لأسلوب يقي الأمة انجرارها إلى مأزق الصراع الدموي الآثم.

ولا أحسب عاقلاً يود أن تكون بلاده على أي شاكلة قائمة في الوطن العربي. وهو إذ يسلم بهذا، طائعاً، مختاراً، فإن واجبه أن يسعى جهده للحفاظ على المكتسبات. ولن يتأتى ذلك ما لم تتظافر الجهود، وتتحد العزمات، وتتقارب وجهات النظر، وتختط الجهات المعنية [خارطة طريق] تحول دون تفلت الناشئة، وتهافتهم على بؤر التوتر.

- فمن الذي يملك تأصيل الهوية، وتخليصها من شوائب التداخل مع سائر الهويات: الطائفية والحركية، والدفاع عنها؟.

فالطوائف، والأحزاب، وسائر المنظمات تقدم بين يدي صراعها مفهومها للهوية، وهي ساعية إلى تبنيها، والعمل من خلالها.

إن هناك صراعاً فكرياً، وعسكرياً. وعلى ضوء ذلك فإن من المهم التعرف على من يملك التأصيل، والدفاع.

[المملكة العربية السعودية] جزء في هذا السياق العالمي، وواجبها أن تستبق تشكيل الوعي، وتحديد المفهوم للهوية، التي تجمع الكلمة، وتوحد الصف، وتحدد الهدف.

واستباقها لا يكون بالضرورة مُضِراً بالآخر، ولا مُلْغيا لوجوده، ولا مستأثراً بالمشاهد من دونه. فالواقع السياسي يفرض على كل دولة أن تُعنى بشأنها الداخلي، وأن تحول دون المساس بسيادتها، وأن تختار الهوية المناسبة لمشروعها الحضاري.

ومن الأخطاء الفادحة تصدير المبادئ الخاصة للهوية، والسعي لفرضها بالقوة، أو بالاحتيال، وعبر الأُجراء، والعملاء. ذلك أن أخطر شيء على الأمة تصديع وحدتها الفكرية، وإرباك مفهومها للهوية.

نعم قد يكون لدى الدولة أقليات تحس بالتهميش، والأثرة، وتلك الأقليات تكون قابلة للتأثر، والاستجابة للعب السياسية الماكرة. أما الأكثرية فواجبها الحفاظ على الهوية، ومراعاة مشاعر الأقليات، والتصدير يختلف عن الدعوة والإبلاغ.

والدولة المصابة بمثل هذه الأدواء تتضاعف مسؤولياتها، إزاء المحافظة على هويتها الجامعة المانعة. ولن ينهض بمهمة التأصيل، والتحرير للمسائل، والمفاهيم إلا مؤسسات واعية للمشاكل، والمعوقات. وعلى رأس تلك المؤسسات قطاع التربية والتعليم، وقطاع الإعلام والثقافة، وسائر المؤسسات التوعوية، والدعوية، والاحتسابية.

يتبع…

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب