10-09-2014

سكان المدن... بين رخاء التحضر ورخاوة الصحة 2-2

ثانياً-: حوادث السيارات: غنيُّ عن الذكر أن المدن الكبيرة تزدحم بالسيارات كما تزدحم بالبشر، وتزداد السيارات كثرة كلما زاد السكان وانتعشت أحوالهم الاقتصادية - لا سيما إذا كانت المدن خالية من شبكة نقل عام، كما هي حال مدننا حتى الآن.

وقد تمّت الإشارة إلى خطر عوادم السيارات، لكن خطرها الماثل للعيان أنه مع كثرة السيارات تكثر الحوادث أيضاً وعدد المصابين والمتوفين. وحسب تقرير لمديرية المرور بالمملكة بلغ عدد الحوادث لعام 1430هـ (485.000) - منها (86%) تحصل داخل المدن - وبلغ عدد الإصابات (34.600) - منها (56%) داخل المدن وأسفر بعضها عن إعاقة دائمة - وبلغ عدد الوفيات (6.140) - منها (37%) داخل المدن. وحسب التقرير المذكور فإن هناك 128 إصابة و23 وفاة لكل مائة ألف من السكان؛ ومن ثمّ فإن المدن الثماني الكبرى البالغ عدد سكانها نصف سكان المملكة قد استحوذت على ما يقارب ثمانية عشر ألف إصابة، وحزنت على أكثر من ثلاثة آلاف متوفى.

ثالثاً-: الأحياء العشوائية: تنشأ هذه الأحياء نتيجة لاستقدام العمالة الأجنبية بكثافة عن طريق الكفالة الحرة وبقاء متخلفين ودخول متسلّلين بلا إقامة نظامية، ولكن أيضاً نتيجة للهجرة الداخلية من السعوديين الباحثين عن فرص العمل وكسب الرزق، هرباً من العوز والفاقة في قراهم الشحيحة مواردها، والذين تسود بينهم - كما تذكر الدكتورة عزيزة النعيم في بحثها القيّم عن الأحياء العشوائية بالرياض المنشور بمجلة (إضافات) في عام 2009 - الأمية التعليمية وأمية الممارسة (عدم توافر المهارات). الأحياء العشوائية قد تكون في الأصل مباني قديمة متروكة في وسط المدينة زهيدة الإيجار، أو مجموعات بيوت مركبة من البلوك والصفيح في أطراف المدن.

البيوت في هذه الأحياء العشوائية متراصة وضيقة الغرف، ويسكنها أسرٌ كبيرة العدد، ولدى البعض منهم -كما لاحظت الباحثة -مشكلات صحية مثل أمراض الكبد وفقر الدم والإجهاض وأمراض الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي. ومن جهة أخرى لاحظت أيضاً باحثات من كلية طب الأسنان بالرياض قبل عدة سنوات تدنى الوعي بصحة الأسنان بين طالبات مدرسة في أحد الأحياء العشوائية مقارنة بطالبات مدرسة في حيٍّ حديث. ومما يؤخذ في الاعتبار كذلك رداءة الأحوال البيئية من حيت النظافة وتسرب المياه وطفح المجارى وإزعاج الحشرات والقوارض، والأحوال الاجتماعية من فقر وبطالة وخطر الوقوع في شباك مروجي المخدرات. كل ما سبق ذكره يقود إلى مشكلات صحية تصيب سكان هذه الأحياء الذين يشكّلون جزءاً لا يستهان به من سكان المدن الكبيرة.

رابعا-: أمراض المدنية: ما يسمى أمراض المدنية المعاصرة - مثل السكري وضغط الدم المرتفع وارتفاع الكولسترول وتضيّق شرايين القلب والبدانة والأورام والاكتئاب - ليست جديدة، ولكن زاد انتشارها وحدوثها نتيجة لكثافة السكان في مجال حيوي ضيق نسبيّاً ولطبيعة الحياة المدنية الصاخبة المليئة بما يثير التوتر والانفعال، وأيضاً المليئة بما يرغّب في نهم الاستهلاك والاستمتاع. هناك على سبيل المثال الضغوط النفسية اليومية التي يكابدها الفرد ويصبر عليها (أو يتعود عليها) بسبب ازدحام البشر في الأسواق ومرافق الخدمات العامة، وازدحام السيارات في الشوارع وأماكن الوقوف، وتباعد المسافات بين الأماكن التي يتردد عليها ساكن المدينة؛ وهناك ضغوط العمل والتجارة والمنافسة؛ والضغوط الاستهلاكية وما قد يصاحبها من ضائقات ماليه، أو قلق حول شؤون البيت وتلبية الحاجات اليومية؛ وهناك الشعور الدائم بضيق الوقت لكثرة ما ينشغل به بال الفرد؛ وهناك من جانب آخر إقبال على الطعام الدسم والخلود إلى الراحة، وعدم الرغبة في إضاعة الوقت بالمشي أو الحركة، إلى غير ذلك من العوامل والأنماط المعيشية التي قد تعرّض ساكن المدينة لمخاطر صحية مثل :

ارتفاع ضغط الدم - السكري- ارتفاع نسبة الكولسترول والدهنيات في الدم - البدانة - نقص فيتامين د . ومعظم هذه المخاطر تزيد من احتمال الإصابة بمرض الشريان التاجي (ضيق أو انسداد شرايين القلب). فلا عجب إذن أن يلاحظ الباحثون (د. منصور النزهة وزملاؤه - عام 1421هـ) أن معدل انتشار هذا المرض في المدن أكثر بمقدار مرة ونصف من معدل انتشاره في الأرياف.

ثم ماذا ؟ تلك المخاطر المعروضة هنا بشكل مختصر إنما هي مؤشرات تخص الجانب الصحي من الواقع الحضري للمدن الكبيرة. وقد أشرت إلى دور المراصد الحضرية في رصد ومتابعة مؤشرات هذا الواقع. ولا يمكن لهذا الدور أن يكون فعّالاً إذا اختٌزِل في إعداد بيانات إحصائية وتقارير تنتهي بتوصيات قد تختفي في أدراج اللجان. فالهدف يجب أن يكون (ويمكن أن يكون) الوصول إلى أعلى معايير التنمية الحضرية، مثل العديد من مدن العالم المزدهرة، وذلك بأن يعقب التوثّق من نتائج الرصد حزمة من قرارات استراتيجية تتخذ شكل خطة مشتركة تنفذها بشكل منسَّق جميع الجهات ذات الاختصاص تحت سمع وبصر أمير المنطقة وأمنائها. مشاريع مثل شبكة النقل العام في الرياض، أو إنشاء سلسلة من المستشفيات الحديثة بها، أو نقل مصنع الأسمنت من مكانه الحالي بالرياض (لو تحقق)؛ وكذلك إزالة الأحياء العشوائية في جدة ومكة المكرمة؛ وكذلك مشاريع الصرف الصحي، وبرنامج ساهر - هي نماذج لقرارات استراتيجيه تغيّر وجه المدينة وواقعها الحضري في الجانب الصحي وغيره. ولكن تغيير هذا الواقع يتطلب التغلب على أي تحديات تواجهه مثل بطء التخطيط والتنفيذ، وضعف التنسيق المتزامن، وضعف الاهتمام بالناحية التنظيمية والرقابية في الأسواق والمرور ومرافق الخدمات العامة، وبمشكلات الصحة العامة والبيئة (برنامج المدن الصحية مثلاً يطبّق في خمس وعشرين مدينه أغلبها - إن لم يكن كلها- مدن متوسطة، أي أقل في السكان من مائة ألف نسمة).

جميع سكان المدن يريدون التمتع برخاء التحضر ولكن في صحة جيدة.

مقالات أخرى للكاتب