11-09-2014

الشيخُ الأُنموذج ..

** يستهوينا في زمنٍ ما لا يستهوينا في سواه؛ فقد نحبُّ السفرَ ثم ننصرفُ عنه، وربما راق لنا السهر فصرنا لا نستطيعُه، وبدا لنا كاتبٌ أوكتابٌ مفضلًا في مرحلةٍ ثم لم نعد نراه كما كنا، واعتنى صاحبُكم ذاتَ تكوينٍ بالقراءاتِ الفكريةِ والفلسفيةِ ويزعمُ أن لها دورًا مهمًا في تنشئته وهو اليوم لا يجد فيها ما وجده بالأمس، ولم يكن من عشاق التأريخِ قبلًا ويجتذبه الآن جانبُه الشفهيُّ المتصلُ بالروايةِ المتداولةِ وفقَ تنوع المدارس التأريخية بين الرسميةِ والشعبية والموثقةِ والملفقة والصحيحةِ وما يعتورُها الشك.

** تأتي سيرُ الأَعلامِ في هذه الدائرةِ المفتوحة للمزيد، وسعد حين أهداه الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم ابن قاسم عددًا من تآليفِه فعكف على بعضها، وأمضى وقتًا مضيئًا مع سيرة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز رحمه الله (1330-1420 هـ) وقرأ كما لم يقرأْ إلا قليلًا، ويذكر لقاءه الوحيد بالشيخ حين كان فتىً في أول المرحلة المتوسطة ضمن وفدٍ طلابيٍّ زار المدينة المنورة وجامعتَها الإسلامية ورئيسَها في آخر أيامه قبل أن ينتقل إلى الرياض، وما يزال إحساسُه بحميمية الشيخ ولطفه واستضافته إياهم في دارته على الغداء مترسمًا في حبه المبكر له وحزنه على رحيله ورثائه إياه ونادرًا يفعل.

** تخيل هذه السيرة أمام النشءِ ليقتدوا، وأمام الكبراءِ ليُقارنوا، وأمام هيئة النزاهة نموذجًا تقيسُ عليه معاييرها، وأمام العامة كي يثقوا أن عصور الأفضليةِ لا تعني ظرفًا زمنيًا بل إرادة إنسانية صادقة.

** اقتطع جارُه في «الصحنة» جزءًا من أرضه وهو قاضي الدلم فلم يستردَّها منه، وجادله آخر مغلظًا له القول فأعرض عنه وحين مات رفض إمام الجامع الصلاة على «شاتم الشيخ» الذي علم بذلك بعد عودته من الحج فخطَّأ الإمام وزار قبر الرجل وترحم عليه، ومُنح منزلًا في المدينة المنورة فلم يقبله إلا بعد اشتراط أن يكون عامًا للمنصِب لا المُنَصَّب، وذهب إلى الديوان الملكي بسيارة أجرة لتواضع سيارته وحاجتها للإصلاح ثم رفض السيارة المقدمة له إلا بعد مشقةٍ وتمنع، ورفض مرافقة موكبٍ له، ولم يُشهد وحيدًا في مطعمه، ومدحه أحدهم في مجلسه فأوقفه، وقال له آخرُ إنهم يثنون عليه في غيابه فأبلغه أن ذلك لا يسره، وحكاياتٌ أخرُ عن عالمٍ ربانيٍ لم يتورم شخصُه ولا جيبُه، ومضى فبقيت مآثره تستعيد خطى الصالحين.

** نحتاج إلى مثل هذه الفواصل المسلكيةِ المميزة؛ فقد سئمنا من يحثُّ على القناعة وهو جشع والورعِ وهو مستغِل والتواضعِ وهو متورم والنزاهةِ وهو متورط والتزامِ المبادئ وهو براغماتيٌ متلون،وليتها توضع في كتيباتٍ صغيرةٍ يتيسر اقتناؤها وقراءتها ولعل دار نشر تتولى تهيئة مثل هذه الحكايات ليتمثَّلها العالم والمتعلم والمسؤولُ والمساءل.

** التنظيرُ يسير.

ibrturkia@gmail.com

t :@abohtoon

مقالات أخرى للكاتب