13-09-2014

عن كلمة الحوار وما يتعلق بها

كثيرون هم المغرضون الذين يكتبون ويظنون أنّ حضارتنا وديننا ولغتنا خالية من المفاهيم التي تدل على «الحوار» أو تتصل بمعناه، وهذا ما يفنده الواقع. وحري بنا أن نتوقف هنا عند هاته الكلمة وما يتعلق بها،

وهنا أشيد مرة أخرى بالدراسات الموفقة التي كتبها الأستاذان عباس الجراري ومحمد الكتاني في هذا الباب.

و «الحوار» استعمل في عدة آيات. ومنها قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} (34) سورة الكهف 34)، ومنها قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} (سورة الكهف 37)، ومنها قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (سورة المجادلة- 1). والآية الأخيرة تدل على تطابق معنى الحوار مع معنى الجدل في الدلالة على إدارة القول بين متخاطبين في موضوع معين.

وللجدل والحوار مستويات متفاوتة، من سنخ الجدل. تدل عليها ألفاظ المناظرة والمحاجة والمناقشة. فالمضمون واحد، وإن تعددت أساليبه، وهو تبادل الآراء مع الغير، مخالفة أو مفاوضة، أو بحثاً عن الحق أو تأييداً للاعتقاد.

أما الحوار فهو المحادثة بين شخصين، يتحدث أحدهما، ويجيبه الثاني، أو يرد عليه ويراجعه، إما على أساس المساءلة والإجابة، وإما على أساس إبداء الرأي من جهة، ومراجعته من طرف الجهة الأخرى.

ولفظ «الحوار» في اللغة العربية مصدره «الحوار» وهو الرجوع في الشيء وإليه. ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} (سورة الانشقاق 14-15). أي كان يعتقد أنه لن يرجع إلى الحياة بعد الموت، ويبعث حياً ليوم الجزاء. وفي نص الحديث: «من دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك حار عليه. أي رجع إليه ما نسبه للغير».

وربما خصوا الحور بالرجوع من الصالح إلى الفاسد، قولاً أو عملاً، ومنه الحديث: «نعوذ بالله من الحور بعد الكور». فمعناه من الزيادة إلى النقصان. ومنه أيضاً الحديث الذي رواه عبادة ابن الصامت : «يوشك أن يرى الرجل من ثبج المسلمين للقرآن لا يحور فيكم إلا كما يحور صاحب الحمار الميت»، أي من أوساطهم، لا يرجع فيكم بخير، ولا ينتفع بما حفظه من القرآن، كما لا ينتفع بالحمار الميت صاحبه. واشتقوا «المحور» للعود الذي تدور عليه البكرة، لأنه يمكنه أن يديرها إلى أي اتجاه.

وذكر الراغب الأصفهاني في معجمه عن القرآن، أنّ الحور هو التردد بالذات أو بالفكر. يقصد التردد بين جهتين. ومنه قولهم حار الماء في الغدير إذا تردد فيه، أي تماوج ذات اليمين وذات الشمال. ومنه اشتقوا قولهم حار في الأمر إذا تردد.

وهكذا الفكر بالنسبة لأي موضوع، فإنه يتردد بين شتى المعاني والتصورات.

ومن مشتقات «الحوار» بمعنى الرجوع لفظ «الحوار». وصيغة فعال مثل صيغة مفاعلة تدل على اشتراك طرفين أو أكثر في تبادل الكلام. ومثاله في المفاعلة حاجة محاجة وحجاجاً، وناظره نظاراً ومناظرة ونازعه نزاعاً ومنازعة، وجادله جدالاً ومجادلة.

وفي لسان العرب التحاور هو التحاور بين متحدثين. ومن كلام العرب كلمته فما أحار إليّ جواباً. أي ما رجع إلي حواراً أو محورة.

ثم تمخض معناه للدلالة على المناقشة، في أمر مختلف فيه، بين طرفين أو عدة أطراف، بأسلوب مدعوم بالاستدلال. إما لتقريب النظر بينها، أو الإقناع برأي أو موقف، مع مراعاة احترام الرأي المخالف. وهو من آداب الإسلام في الحوار. وقد كان الإمام الشافعي يقول: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. ونتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا فيما اختلفنا فيه».

ونستخلص من هذا التحليل اللغوي أن للحوار معنيين أساسيين: أولهما معنى تبادل الآراء حول قضية محددة، بأن يعرض المحاور رأيه، فيراجعه صاحبه. ثم يتداولان هذه المراجعة، للإبانة عما لكل منهما من أفكار أو دلائل، إلى أن يصلا إلى الاتفاق المرغوب فيه.

وثانيهما السعي إلى إظهار الحق أو الصواب بالمراجعة لآراء المخالفين، في موضوع معين، أخذاً ورداً، وتعقيباً على كل ملاحظة. أو مقولة بالتي هي أحسن.

أما المناظرة فهي من الألفاظ ذات الصلة بهذا المعنى. وهي مشتقة من النظر، والنظر هنا هو النظر العقلي، وليس الحسي. وربما كان المعنى العقلي مأخوذاً من المعنى الحسي، وهو النظر إلى الشيء بحاسة العين، ولما كان التقابل بين شيئين يوحي بالمقارنة بينهما أو بأنّ كلاً منهما ينظر إلى الآخر حسياً، استعملت كلمة المناظرة بمعنى التقابل، وبمعنى التوازن والتماثل.

والمناظرة اصطلاحاً، هي تبادل وجهات النظر في موضوع معين، من أجل تمحيص الأفكار المتعلقة به، والنظر فيها على أساس توخي الحق أو الصواب فيه. ولا تصح إلا بين متماثلين في العلم والاطلاع على ذلك الموضوع. وبهذا المعنى تكون أعم من المجادلة، التي هي منازعة فكرية حول موضوع معين.

وهناك مفهوم المناقشة. وقد أصبح رائجاً في عصرنا، في معنى المحادثة والحوار اللذين يهدفان إلى التقصي للمسائل في موضوع من الموضوعات. وبهذا المعنى تأخذ صورة (الحوار) المفتوح، الهادف إلى تبرير حكم أو استخلاص نتيجة أو التأكد من أمر. والمعنى اللغوي للفظ المناقشة هو الاستقصاء في الحساب حتى لا يترك شيء ويقال انتقش منه جميع حقه وتنقشه، إذا أخذه فلم يدع شيئاً. قال الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته الشهيرة:

ونقشتم فالنقش تجشمه النا-

- س، وفيه الصحاح والإبراء

ومعنى قوله أنه لو كان بيننا وبينكم محاسبة عرفتم الصحة والبراءة. وفي الحديث الشريف: «من نوقش الحساب عذب» أي من استقصى في محاسبته وإيقافه على أخطائه. وفي حديث الإمام علي: يجمع الله الأولين والآخرين لنقاش الحساب.

أما لفظ الحجاج أو المحاجة فهما مشتقان من «الحج» وهو القصد. إذ يقال حج فلان إلى مكان كذا، إذا قصده من طريقه المعروف. وحج إلى فلان قصده. ثم غلب استعماله على التوجه إلى البقاع المقدسة، وهي البيت الحرام بمكة، حيث تؤدى شعائر الحج فيها، وفيما حولها من البقاع المعروفة. ثم أطلقت المحجة على الطريق الموصلة إلى الغاية.

واشتق منه لفظ المحاجة والحجاج في معنى المنازعة في الرأي عن طريق عرض الحجج المعتمدة. والحجة هي البرهان. واشتقوا منه أيضاً الاحتجاج. وهو تفنيد الرأي المخالف بالدليل والحجة. قال ابن سينا: جرت العادة أن يسمّى الشيء الموصل إلى التصديق حجة. فمنه قياس ومنه استقراء لكن، من حيث إفادته للبيان يسمّى «بينة» ومن حيث طلب الغلبة يسمّى «حجة» وقد تسمّى المجادلة بالباطل، حجة أو محاجة. وقد استعمل القرآن الكريم لفظ المحاجة ومشتقاته. فقال تعالى:

- {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة آل عمران 66).

- {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} (سورة الأنعام 83).

- {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} ( سورة آل عمران 20).

وبذلك تكون المحاجة مستعملة في الحق وفي الباطل على حد سواء، فهي لا تذم لذاتها ولكن بحسب ما تستعمل له. وهي في هذا الحكم كالجدل والمجادلة.

والجدل لغة يدل عموماً على القوة والإحكام والشدة في الامتناع، فتقول: جدلت الحبل إذا أحكمت فتله. والجديلة من الشعر الضفيرة المحكمة الفتل، ومنه القول: فتاة مجدولة الخلق أي محكمة البنية. وأطلق على الصقر وهو الطائر المعروف «الأجدل» لاشتداد خلقته وقوته على المهاجمة. وجدل الخصم خصمه إذا صرعه بإلقائه على الأرض، التي تسمّى الجدالة أيضاً، بملحظ صلابتها وتماسك بنيانها.....

مقالات أخرى للكاتب