الشيخ الدكتور قيس آل الشيخ مبارك عضو هيئة كبار العلماء: الجهاد في الإسلام ليس اعتداءً ولا شهوةً للانتقام فلم يشرعْهُ الله لتقتيل البشر

الجهاد خُلُق وأدب إسلاميّ الخروج فيه دون رضا الوالدين كبيرة من الكبائر

كتب - إبراهيم بن سعد الماجد:

الجهاد والطاعة والخروج والإمامة، تلك هي القضايا التي تشغل فكر الكثير من شباب اليوم، حتى أولئك القاعدين على سررهم، فهذه هو حديثهم، يتحدثون حول هذه المواضيع ليس من منطلق رغبة في المخالفة، وإنما قد يكون رغبة في معرفة الحق من الباطل.

هذه القضايا وغيرها من القضايا الملحة حري بعلماء الأمة التصدي لها وبيان الحق فيها، ورد الباطل. كل هذا بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - في أكثر من حديث ولقاء، وآخر ذلك خلال لقائه بالعلماء حيث طالبهم بالتصدي لهذه الأفكار الضالة حماية للأمة من التشرذم والاختطاف من قبل الجماعات الإرهابية.

في هذا الحوار مع فضيلة الشيخ الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك عضو هيئة كبار العلماء في المملكة، نلقي الضوء على بعض هذه القضايا والتي سمح بها وقت فضيلته، حيث جاء هذا الحوار بين يدي انعقاد جلسة هيئة كبار العلماء، وقد أبان فضيلته عن الكثير من أوجه الخلل في عدم فهم بعض النصوص الشرعية، وخطر الانجراف خلف الدعاوى الباطلة، وأكد أن السمع والطاعة ليس أمراً مقصوداً لِذاته، وإنما شرعه اللهُ لألاَّ يكون الناسُ فوضَى لا سَراةَ لهم، فأمَرَ اللهُ بذلك لِمَا في الخروج عن الطاعة من تشتيتٍ للكلمة وتفريقٍ للجماعة، وقال الشيخ قيس إن من يحرض بالقول أو الكتابة يسبب فتنة وفوضى، وإنما الواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون بمنزلةِ حمزةَ في الجنة، لا أنْ يَدفع الناس للخروج، وهو هاربٌ أو متخفٍّ، يَفرُّ ويُطالب الناس بالشجاعة.

حوارنا مع فضيلته كان له أن يكون أكثر ثراءً وتنوعاً لولا كما أسلفت ضيق الوقت، وكثرة مراجعات فضيلته العلمية، فإلى الحوار:

* الجهاد في سبيل الله كما فصَّله العلماء ينقسم إلى قسمين:

فرض عين، وفرض كفاية، والملاحظ لدى المحرضين على الخروج للقتال أنهم جعلوا من الدفاع عن الدول الأخرى من باب فرض العين كون بلاد المسلمين بلاد واحدة، كما يقولون، ولذا فإنهم لا يرون إذن الحاكم، ولا إذن الوالدين فما هو رأي فضيلتكم؟

- الجهاد في الإسلام ليس اعتداءً، ولا شهوةً للانتقام، فلم يشرعْهُ الله لتقتيل البشر، فلو شاء سبحانه لأهلك الكفار جميعاً، فمن حكمة الله تعالى أنْ جعلَ الجهادَ خُلُقاً وأدباً إسلاميّاً، شَرَعَهُ سبحانه لدفع الظلم والكفر عن المسلمين، والأصل فيه أنه فرضُ كفاية، فلا يتعيَّن على جميع المسلمين، غير أنه يصيرُ فرضَ عينٍ بتعيين الإمام، فإذا عيَّن السلطانُ أحداً من المسلمين للجهاد صارَ فرضاً عليه أنْ يخرج للجهاد، وكذلك يصير فرضَ عينٍ على أهلِ بلدةٍ إذا فاجأَ العدوُّ بلدتهم، ففي هذا الحال يصير فرضَ عين على كلِّ ذكرٍ مكلَّفٍ قادر مِن أهل تلك البلدة المعتَدَى عليها، فإن لم يكونوا قادرين على ردِّ المعتَدِي، صار فرضَ عينٍ على مَن يليهم. أما في حالِ الجهاد الذي هو فرضُ كفايةٍ، فقد ذكر الفقهاءُ أنَّ الخروجَ فيه من غير رضا الوالدين كبيرةٌ من الكبائر، لأنه عقوقٌ لهما، وهو خلاف ما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة، واتفق عليه علماءُ المسلمين، كما قال الحافظُ أبو عمر بن عبد البرَّ: (لا خلاف عَلِمْتُهُ أنَّ الرجلَ لا يجوز له الغَزْوُ، ووالداهُ كارهان أو أحدهما، لأنَّ الخلافَ لهما في أداء الفرائض عقوقٌ، وهو من الكبائر)، وقد روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال عليه الصلاة والسلام: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد). وفي سنن أبي داوود بسند صحيح: (ارجع فأَضْحِكْهما كما أبْكَيْتَهما)، بل قالوا يجب أن يكون رضاهما بالقول واللسان، فلو أذنا بلسانهما، ولم يكونا راضِيَيْنِ، فلا يجوز الخروج، وكذلك لو أذنَ أحدُهما ولم يأذن الآخر لم يَجُزْ الخروج، فشَرْطُ الخروج رضاهما جميعاً، وأن يكون إذْناً غيرَ مشوبٍ بإكراه، أي عن رضاً بالقلب، بل ذكروا أن مَن له إخوة أو عمٌّ أو عمَّة أو خالٌ أو خالة، وكان هو القائمُ عليهم، ويخافُ ضَيْعَتَهم، فمُقَامُه عندهم أفضلُ عند الله.

* شبهة عظيمة يطلقها بعض المغرر بهم، بل يقول بها بعض مدعي العلم، وهي أن الناس يبعثون على نياتهم، فمن خرج للقتال وهو سيريد الجهاد الحق، فإنه على أجره، حتى ولو قتل مسلماً أو معاهداً، كيف لنا أن نرد على هذه الشبهة؟

- غفر الله لك حين جعلْتَها شبهةً عظيمة، ما أقْبَحَهُ مِن عذر أمام الله تعالى، أنْ تخالِف شرع الله، فتفارق الجماعة لتقاتل تحت رايةٍ عُمِّيَّة، فتسفك الدماء بالظِّنَّة، وتقتل الرجالَ وتُيَتِّمَ الأطفال وترمِّل النساء، وترجو لهم بعد ذلك المغفرة، والأقبح أن ترجو لنفسك المثوبة والأجر! أين أنت أيها الشابُّ من حديث الإمام مسلمٍ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، ماتَ مِيْتَةً جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُمِّيّةٍ، يَغضَبُ لِعَصَبةٍ، أو يدعو إلى عَصَبةٍ، أو يَنصُرَ عَصَبةً، فَقُتِلَ، فقِتْلَةٌ جاهلية، ومَن خرج على أمتي، يَضربُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشى مِن مؤمنها، ولا يَفِي لذي عهدٍ عَهدَهُ، فليس مني ولستُ منه). والراية العُمِّيَّة هي عندما تتعدد الرايات، لا يُدرَى أيها التي ينبغي أنْ يُصار إليها، فَيَحارُ الشابُّ بين راياتٍ متعدِّدة، ويكون اندفاعُه وانضمامُه إلى جماعةٍ من هذه الجماعات، بدوافع نفسانية وميولٍ قلبية، أي بحُكْم أنَّ زميلاً دلَّه عليها، وحسَّنها إليه، فهذا هو الأمر الأعمى الذي لا يَستبين وَجْهُهُ إلا بهوى النَّفس وشهوتِها، قال الإمام النووي: (ومعناها أنه يقاتل لشهوةِ نفسِهِ، وغَضْبَةٍ لها). وقَبْلَه قال القاضي عياض: (وفي معناها الرواية الأخرى، أي أنه إنما يقاتِلُ لشهوةٍ منه، وغَضَبِهِ لنفسِهِ أو لقومِهِ وعصبيَّته، هذا والله أعلم في الخوارج وأشباهِهم من القرامطة). ومن أجل هذا سمَّاهم علماؤنا: «أهل الأهواء» لأنهم يفسِّرون النصوص القرآنية والأحاديث النبوية بما تشتهيه نفوسُهم وأهواؤهم القلبيَّة، ثم قال القاضي عياض: (ومعنى «ولا يتحاشى مِن مُؤمنها» أي لا يَكترثُ بما يفعلُه، ولا يَحذَرُ مِن عقباه). وهذا واقعُ هؤلاء الذين يَقتُلون ثم يُكبِّرون طرَباً بما يظنُّونه نصراً، ولا يكترثون بما أفضَتْ إليه أفعالُهم، من النساء اللائي تَرَمَّلْنَ ولا الأطفال الذين يُتِّموا وشرِّدوا.

* قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تآمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، ما هو تعليقكم؟

- مسألة السمع والطاعة لولي الأمر لدى هؤلاء الذين يدعون إلى القتال في مناطق مختلفة من العالم، أنهم لا يرون وجوبها كون ما يقومون به خارج بلادهم، وأن ولي الأمر طاعته محصورة داخل سلطانه فقط، كيف نرد على مزاعمهم تلك؟

السمع والطاعة ليس أمراً مقصوداً لِذاته، وإنما شرعه اللهُ لألاَّ يكون الناسُ فوضَى لا سَراةَ لهم، فأمَرَ اللهُ بذلك لِمَا في الخروج عن الطاعة من تشتيتٍ للكلمة وتفريقٍ للجماعة، وهذا ما حصل من زعماء هذه الجماعات، الذين غرَّروا بالشباب، بعد أنْ بحثوا عن أرضٍ اضطربَ فيها الأمن، فجعلوها ساحةً للقتال، يستقطبون الشباب من شتَّى البقاع، للزجِّ بهم في قتالٍ قد يمتدُّ إلى سائر البلاد، ثم ما حجَّة هؤلاء أمام الله حين يتسلَّحون ويستبيحون القتال وانتهاكَ حُرُمات المدن والقرى، يدخلونها ولا يحترمون لذي شيبةٍ شيبَته، ولا لذي سنٍّ سنَّه، ولا قَدْرَ عندهم لأعيانِ أيِّ بلدةٍ يدخلونها، وليس لأهل العقل والرأي فيها احترامٌ عندهم، ولا لأئمة المساجد، فضلاً عن العلماء، فأيُّ مروءَةٍ لشبابٍ هذه أخلاقهم.

* يقول البعض إذا حلَّ بالأمة كما هو حاصل الآن من تقاتل في أكثر من مكان من عالمنا الإسلامي فإن الجهاد لا يشترط له ولاية ولا راية، ما موقف الشريعة من مثل هذه الأقوال؟

- أغلبُ بلاد المسلمين حالها مستقر، والناس تقوم بأعمالها وتقضي حوائجها بأمان، وهؤلاء الجماعات عندما يرفضون الراية والولاية، فإنهم يدفعون الأمَّة إلى ما هو أسوأ، وهو الزجُّ بالبلاد الإسلامية في صراعات وفِتَن، يتزعَّمها زعماءٌ يَصدُقُ عليهم قول الشاعر:

فبكلِّ دارٍ منبرٌ وخليفةٌ

يدعو لبيعته على أوضاع

وكأنهم لم يَرَوا حالَ الصومال اليوم، أسأل الله أن يعيدهم إلى صوابهم.

* قصة أبي بصير رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قام به منفرداً ضد المشركين، يتكئ عليها البعض في مسألة جواز الجهاد دون ولاية ولا راية، كيف نرد على هذه الشبهة؟

- قصة أبي بصير بن أسيدٍ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه، لا دلالة فيها على ذلك، وأنا أُوجزُها بما يناسب هذا الحوار، ذلك أنه كان من بين شروط صلح الحديبية أن مَن جاء من المشركين مسلماً، أنْ يُردَّ عليهم، فكان أنْ أسلمَ أبا بصير، فقدِمَ مهاجراً فارّاً بِدِينه، فأرسل المشركون رجلين منهم يطلبونه، فوفَّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم العهد، وسلَّمَه لهما، فخَرجا به، ثم إنه وقد علمَ أنهم سيؤذونه، احتالَ ليدْرَأ عن نفسه التعذيب والقتل، فقتل أحدَهما، وهرب الآخر، ثم رجع إلى المدينة المنورة، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلم كلاماً فَهِمَ منه أنه سيردُّه إليهم لو طلبوه، فخرج إلى ساحل البحر، فصارَ كلُّ مَن يُسلمُ يَلتحق بأبي بصير، حتى اجتمع عددٌ يزيد على الأربعين، فكانوا يعترضون عِيرَ قريش إلى الشام، من أجل أن تتأذَّى قريشٌ من ذلك، فتُلغي هذا الشرط، وهذا ما حصل، فأرسلتْ قريشٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن أتاه فهو آمن، وقد ذكر الفقهاءُ كالخطَّابي وغيرُه، أن أبا بصيرٍ ومَن معه لم يكونوا تحت حكم المسلمين، فلا سُلطانَ للمسلمين عليهم، وإنما هم جماعة فَرُّوا بدينهم من المشركين، فإن لَجؤوا للمدينة فليس أمام المسلمين إلا تسليمهم للمشركين إنْ طلبوهم، التزاماً بالمعاهدة، وإن أمسك بهم المشركون عذَّبوهم وربَّما قتلوهم، فلم يكن لهم سبيلٌ لتخليصِ أنفُسِهم من المشركين إلا بهذا العمل، فكان لهم أنْ يَتخلَّصوا من إذايةِ المشركين، إما بأخْذِ أموالهم، أو بإحراق دورهم، أو بقتلهم، فبهذا الحديث وغيره استدلَّ الفقهاءُ على أنَّ للأسير أنْ يَخدع المشركين أو يقتلهم، حتى يتخلَّص منهم وينجو، وأن تصرُّفه هذا ليس فيه نقضٌ للمعاهدة، لأنه ليس تحت حكم المسلمين.

* حديث البخاري: (إنما الإمام جُنَّة يقاتل من ورائه ويتقى به)، أليس هذا دليلاً على وجوب - وجود إمام ورأيه؟

- حديث (إنما الإمام جُنَّة يقاتَلُ مِن ورائِهِ ويُتَّقى به) يفيد أن الإمام كالسَّاتِر الذي يمنع العدوَّ مِن إذاية المسلمين، ويَحمي الناسَ، لألاَّ يُخطئ بعضُهم على بعض، لأن الناس يخافون سَطْوَتَه، فلا يَعتدِي بعضُهم على بعض، ولا يتعارضُ هذا مع وجوب إنكار المنكر، بمراتبه المعروفة، شريطةَ ألاَّ يؤدِّي النُّصحُ والإنكار إلى دَفْع البلاد إلى فوضى، بشقِّ العصا وتفريق الجماعة.

* من يحرض على ولي الأمر بالقول أو بالكتابة، هل يُعد في ميزان الشرع خارجاً على ولي الأمر؟

- هذا التحريض مخالفٌ للهَدْي النبويّ الشريف، فضلاً عن أنه لا يُؤدَّي إلى مصلحةٍ تُرجَى، فواجب المسلم أن يكون ناصحاً لجميع الخَلق، فينصح الحاكم والمحكوم، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ليكون بمنزلةِ حمزةَ في الجنة، لا أنْ يَدفع الناس للخروج، وهو هاربٌ أو متخفٍّ، يَفرُّ ويُطالب الناس بالشجاعة، فهذا من الجناية على المجتمع، لأنه يدخل البلاد في فتنةٍ وفوضى، قال ابن بطَّال: (فمَن قام عليه -أي على الإمام- مِن الناس متأوِّلاً، بمذهبٍ خالفَ فيه السنَّة، أو لِجَوْرٍ، أو لاختيارِ إمامٍ غيرِهِ، سُمِّىَ فاسقاً ظالماً غاصباً في خروجه، لتفريقه جماعة المسلمين، ولِمَا يكون في ذلك من سفكِ الدماء).

** ** **

السيرة الذاتية للضيف

ولد الشيخ الدكتور قيس بن محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ مبارك عضو هيئة كبار العلماء وأستاذ الفقه وأصوله بجامعة الملك فيصل بالأحساء في 18 أبريل 1960 في بيت علم، حيث تشتهر أسرته الأحسائية بالعلم والأدب، وقد حصل على درجة الدكتوراة من جامعة الزيتونة بتونس في الفقه الإسلامي وكانت البكالريوس من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الشريعة، وينتمي الشيخ إلى المذهب المالكي الذي هو المذهب السائد في منطقة الأحساء، بل يعد من كبار علماء هذا المذهب.

شارك الدكتور قيس في عشرات المؤتمرات والندوات والملتقيات العلمية داخل المملكة وخارجها، كما له عضوية في العديد من هذه المؤسسات العلمية.

صدر له العديد من المؤلفات منها:

- تأملات وأنظار

- رمي الجمرات

- المسؤولية الطبية

- مقالات وخواطر

- العقد الطبي

- بالإضافة إلى العديد من البحوث والمقالات العلمية المختلفة.