رفقاً بي راعاك الله.. إنها أمي يا دكتور

د. خالد محمد الصغيِّر

جاءني اتصال من أخي الأكبر يُفيد فيه بأن والدتي - التي بدت مؤخراً تُعاني من نقص في أملاح الصوديوم - قد عاودها المرض مرة أخرى، وأنه في طريقه للذهاب بها لطوارئ أحد المستشفيات الحكومية الكبرى في العاصمة الرياض وما هي إلاّ لحظات حتى التقيته هناك.

كان الجو بارداً بحكم أنه ليلة من ليالي فصل الشتاء القارس من يوم الجمعة الثاني من ربيع الأول لعام 1435. المكان كان مزدحماً ومتكدساً بعشرات الناس صغاراً وكباراً جاءوا من كل حدب وصوب ينشدون العافية من طبيب مداوٍ. طال الانتظار، وأصاب المللُ والدتي بمقتل بحكم التعب الشديد الذي كانت تعاني منه. وكنت أنا وأخي الأصغر مني نُمضي الوقت برحلات مكوكية جيئةً وذهاباً بين مكان استقبال المرضى في الطوارئ، وغرفة الانتظار التي كنا نشاهد فيها مباراة النصر والنهضة؛ تلك المباراة التي كانت نوعاً ما مهمة للعالمي ليمضي قدماً في الدوري، وبنهاية المباراة وبعد طول انتظار جاء الفرج بالسماح لوالدتي بمعاينتها من قبل أحد الأطباء السعوديين المناوبين بالطوارئ. حالتها لم تكن على ما يُرام وهي امتداد للحالة التي استدعت أن تُمضي أياماً في ذات المكان قبل أسبوعين تقريباً، ولكن الطبيب في تصرف غريب لم يسمح لها بالتنويم المباشر، ولا الذهاب إلى المنزل بعد صرف الدواء المناسب، وإنما أصر على بقائها في غرفة للانتظار صغيرة خانقة خالية من كل أسباب الراحة، أمضت الوقت خلالها جالسة على كرسي كان بينه وبين الراحة جفاء وعداوة مستديمة. وظلت على هذا الحال أربع ساعات، كنت أبحث في أركان وزوايا مركز الطوارئ وكلما وجدت أغطية زائدة أخذتها لافترش لها الأرض، ثم تأتي الممرضة وتطلب عدم السماح لها بالنوم على الأرض لخطورته على صحتها. ومع ساعات الفجر الأولى اقتنع الطبيب المداوي بأنَّ حالتها تستدعي التنويم ضمن عدة غرف كانت بالأساس ممراً تم تحويله مؤقتاً لغرف تنويم تابعة لمركز الطوارئ.

ظلت والدتي في هذه الغرفة أربعة أيام كانت أثناءها محاولتنا أنا واخوتي مستميتة لنقلها لغرفة في أحد أجنحة المستشفى، وجاء الفرج بعد أيام أربعة تم حينها نقلها للغرفة رقم 15 في الجناح الثاني والعشرين صباحاً. كان خبراً مفرحاً لأنَّ وجودها هناك سيمنحها رعاية طبية أفضل، ولكن القدر كان يخبئ أمراً لم يكن في الحسبان. جئت لزيارتها في المساء ووجدت أفراد عائلتي وكأنهم في مأتم متحلقين حولها وقد حبسوا دموعهم، وقد ساد الصمت والوجل غرفتها. جاء الجواب بعد السؤال عن الخطب أنَّ والدتي دخلت مرحلة غير طبيعية أفقدتها الوعي، فلم تعد تعي ما تقوله. وعندها ذهبت لاستدعاء الطبيبة المشرفة على الحالة وكانت سعودية - فيما يبدو حديثة التخرج. سألتها سؤالاً اتبعته بآخر وثان وثالث، ولكنها اختارت الصمت وعدم التجاوب. وعرفت فيما بعد أنها كُلفت بمتابعة حالة والدتي مُرغمة ولهذا فضلت ألاّ تعاينها عناداً فيمن أرغمها على متابعة المريض القادم الجديد.

أخذت حالة والدتي تزداد سوءا، وبدأ القلق يصيبنا فطلبنا بإلحاح استدعاء الطبيب المناوب وبعد طول انتظار جاء طبيب سعودي قام على الفور بفحصها، وأشار إلى أنها تعاني من أمر ليس ذي بال، وذكر أنه وجه الطبيبة المستعصية بإعطائها مسكناً، وقليلاً من البخار لشعورها بضيق في التنفس. كلام تطميني مخدر ليس له من الطب والتطبب صلة. وبعد نقاش اتفقنا أنا وإخوتي في الغد أن نأخذ حالتها الآخذة في التردي، وما واجهته في الطوارئ، والإقامة في أحد غرف الممر، وما واجهته من رعاية طبية غير لائقة، وتصرف الطبيبة، وغيرها لإدارة المستشفى التي تجاوبت مشكورة، وأمرت بتشكيل فريق طبي للكشف على والدتي والوقوف على حالتها. وجاءت نتيجة الفحص المبدئية صادمة حيث أشار الأطباء إلى أنَّ الوالدة ربما التقطت فيروساً أثناء انتظارها في غرفة الانتظار في الطوارئ، أو من غرفة الطوارئ المستحدثة في الممر، وأنه فيما يبدو أصابها بالتهاب رئوي حاد تحتاج معه للعلاج المكثف مدة لا تقل عن أسبوعين. عندها طلبت مقترحاً على أحد أطباء الفريق الذي أمرت بتشكيله إدارة المستشفى أن يتم نقلها للعناية المركزة لتلقى رعاية طبية أفضل، ووافق الطبيب بعد أن وجه بالتواصل مع فريق طبي معاين من العناية المركزية الذين قرروا بعد الفحص أن حالة الوالدة تستدعي نقلها لهناك على الفور. وصاحبنا الطبيب المناوب كان يقول إن والدتي كانت تعاني فقط من مجرد ارتفاع في الحرارة، وضيق في التنفس تحتاج معه لمسكن للألم، وكمية من البخار.

أخذ فريق العناية الطبي والدتي إلى العناية المركزية في يوم الأربعاء وكانت الخطة العلاجية تتطلب إجراء فحوصات متقدمة للوقف على حالتها بدقة. بعد أن انتهت فترة الزيارة المسموح بها ذهبت وإخوتي للمنزل مكبلين بهاجسي الخوف والرجاء، ومصحوبين بالهلع من السرعة التي تدهورت أثناءها حالة والدتي في فترة أقل من أسبوع.

عُدنا من الغد وكل منا يحمل في جعبته كما وافرا من الانتظار والترقب المحفوف بالقلق الشديد. وما أن وصلت للعناية المركزية حتى أخذت أبحث عن طبيبها في زواياها وأركانها، وفي اللحظة التي قابلته كنت كمن حاز الدنيا بأسرها. بادرته بالسؤال بعد السلام عن جنتي المسجاة على بعد أمتار، فجاء الجواب كوقع الصاعقة المزلزلة التي هزت كل جزء من أجزاء جسدي حين قال لي: « والدتك أصابها التهاب رئوي حاد وخطير، ولن يكون بمقدورها معه التنفس بسهولة إلاّ من خلال الأجهزة المساعدة ثم تابع يقول في برود تام لا يبدو معه أنه يُخبر عن أصعب خبر يمكن أن يتلقاه مسمع إنسان. أخذ بعدها يستفيض في الشرح عن حالة والدتي وشعرت حينها بأنني انقسمت إلى شطرين عقل يسمع، يناقش، يستفسر، وقلب تسارعت نبضاته خوفًا ووجلاً وعيناي تسترقان النظر باتجاه جنة وارفة الظلال أصاب جسمها الطاهر مرض ربما تغادر معها حياتي في أية لحظة فتجعلها صحراء مقفرة لا روح فيها. حاولت أن أمنع دموعي من التساقط، لكن عيناي اغرورقت بها فتساقطت واحدة تلو الأخرى ثم انهمرت كنهر جارف، وطبيبها المداوي يتابع شرحه من دون اكتراث يذكر بمدى وقع تمرير خبر كهذا عليّ. ثم ذهبت بعدها مسرعاً لألقي نظرة سريعة عليها من خلف زجاج العناية وما أن رأتني طلبت مني بإلحاح أن أخرجها وقلت لنفسي ليتني أستطيع لأحلّق بك بعيداً عن أجواء مرضك الذي أصابك، بل ليته أصابني ولم يصبك غاليتي. لم أكن أشعر بما كنت أفعل ولا أقول؛ إذ فقدت الإحساس بالمكان والزمن فوجدتني فجاءة بين إخواني وأخواتي في الممر المحاذي للعناية أنقل لهم الخبر المزلزل، فطلبوا مني أن نذهب سوياً ليسمعوا من الطبيب الخبر. صحبتهم إلى هناك وكنت استرق السمع متمنياً أن يُغَّير الطبيب كلامه. كانت لحظات قاسية، مرة كالعلقم بعدها تحلّق الجميع حول غرفتها الزجاجية في مشهد وداعي ليس بمقدور كلماتي وعباراتي وصفه. ساءت حالتها في قابل الأيام، وغابت عن الوعي قرابة الشهرين بعد أن بقيت في العناية المركزة فترة تتجاوز الثلاثة أشهر، وفي أثناء ذلك كان الأطباء يقولون إن الأمل ببقائها على قيد الحياة موجود، ولكنه ضعيف وضعيف جداً.

كتب الله لوالدتي عمراً جديداً وهي تتعافى يوماً بعد آخر سائلاً المولى لها المزيد من الصحة، وموفور العافية بعد أن أمضت في المستشفى قرابة السبعة أشهر عانت من الأمراض الجسام واحداً تلو الآخر افتقدت مع مرضها قلبها الحنون، ويدها الحانية، وأشعرني مرضها العضال بأن زهرة حياتي وشمسي بدت تذبل. آه يا أماه كم افتقد حضنك الدافئ، وقلبك الحنون!

أحببت أن أسوق حالة والدتي - شفاها الله - في سياقها المكاني والتاريخي لأتوقف عند عدد من الملامح الطبية، متمنياً أن يعيها الطبيب تحديداً، والمسؤول الإداري عن صحة أبناء بلدنا الحبيب عموماً.

كم أتمنى أن يُعاد النظر في واقع مراكز وأقسام الطوارئ في مستشفياتنا من الناحية الإنشائية، والإدارية، والطبية من أجل تقليل تفاقم الحالات المرضية، وتقليل فرص انتقال المرض بالعدوى، ولا يقل عن ذلك أهمية معالجة العجز في عدد الأسرة، وقلة أعداد الأطباء الذين يباشرون الحالات، ومحدودية كادر التمريض الذي يقوم بمهام متابعة حالات المرضى الحرجة التي تستدعي سرعة المعالجة.

كم أتمنى أن يكون البعد الإنساني حاضراً وبقوة في تعامل أطبائنا مع المرضى وأهاليهم.

كم أتمنى أن يكون هناك مزيد من الدورات للأطباء ترشدهم عن أفضل السبل لنقل خبر حالة المريض له، أو لذويه.

كم أتمنى أن يرتقي أطباؤنا فوق خلافاتهم الشخصية الإدارية وأن يضعوا توفير العناية اللازمة للمريض فوق كل اعتبار.

كم أتمنى توعية وتثقيف أطبائنا وطبيباتنا السعوديات حديثي التخرج الذين نفاخر بهم الدنيا أنهم يمارسون أشرف مهنة في الوجود لا مكان فيها للترفع، والفوقية، والعناد، وتصفية الحسابات الشخصية.