18-09-2014

للأمير العياف:إنما الفضل لأهل الفضل

يتحدث علماء الشريعة وطلبة العلم وخاصة الناس قديماً وحديثاً في دروسهم وفي مجالسهم الخاصة وفي كتبهم وأحياناً في الإعلام وفي رسائلهم العلمية عن مقدار التخبط في التراث الفقهي الموروث البعيد عن الشرع والعقل.

وأذكر على سبيل المثال أني سمعت الشيخ بن عثيمين رحمه الله يقول وقد ضاق صدره بتخبط الأقول الفقهية وبعدها عن النص والعقل أثناء درس له في زاد المستقنع «هذا لنعرف ما أُدخل في فقه القرون الوسطى» أو نحواً من ذلك، ثم طلب إيقاف التسجيل رحمه الله. ولكني لم أكن أدرك مدى بُعد الفوضى الفقهية أصولاً وفروعاً، حتى بدأت في كتابة كتاب عن استنباط الأحكام الفقهية للمعاملات الاقتصادية الحديثة ملتزماً بالقواعد الاستنباطية المستمدة من النصوص الشرعية والمتفق عليها عقلاً ومنطقاً بين عامة أمة محمد الأمية فضلاً عن أهل العقول والمناطقة والأصوليين. ولا أنكر أنه قد أصابتني نوبات من الإرهاق النفسي بُعيّد ما انتهي من كل باب من أبواب الكتاب، وأعقد النية عن التوقف عن المواصلة (لولا الحياء)، فضلا عن نوبات اليأس والقنوط من تلقي الكتاب بالقبول بين عامة الناس. فأما نوبات الإرهاق النفسي، فلم أكن أتوقع أن الأمور ستتسع علي في كل باب، حيث سأجد أن غالب إن لم يكن جميع ما كُتب في فقه المعاملات ليس له مُعتمد من نص شرعي ولا نظر منطقي صحيح أو قاعدة مطردة (وشبيه هذا من نقض كل الأحكام الفقهية موجود في شرح بن عثيمين لبعض أبواب فقه زاد المستقنع كالطهارة). ففي كل باب اضطر إلى تفنيد غالب أحكام مسائل الباب المشهورة ثم بيان حكمة الشارع سبحانه في التشريع وموافقة التشريع لكل زمان ومكان لولا الابتعاد عن النص الشرعي بتجاهله أو بليّهِ بإخراجه عن معناه الواضح بالدليل الشرعي. وهذا عمل مُرهق نفسياً، فهو كمن يكفن موتى كثير العدد بعد مصيبة مُذهلة، فلا تجد فيه همة بعدها. وأما نوبات اليأس والقنوط من حصول القبول للكتاب، فليس بسبب صعوبة طرحه ولا لبعده عن التأصيل الشرعي، فطرح الكتاب العقلي كتأصيله الشرعي نابع من مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام. فهو بسيط لا يصعب على الأميين فضلاً عن المتعلمين. ولكن الإشكال يقع في أمرين. الأول التصور المسبق في عقول الناس الذي يمنع من فهم أبسط الطرح، مع ما خُدرت به عقول الأمة الإسلامية لقرون طويلة بأن دينها دين كهنوت صعب لا يقدر على فهمه إلا خاصة من الناس، وهل الإسلام إلا دين الأميين؟ والثاني ما يُتوقع من ماومة التصحيح للانتصار للنفس والمصلحة والمذهب.

وقد تساءلت كثيراً كما سيتساءل كثيراً ممن يقرأ هذا المقال: وهل يُعقل أن لا تُخرج الأمة عبر قرونها من رجالها، من يؤصل قواعد الدين الصحيح الذي ارتضاه النبي وخلفاؤه الراشدون وصحابته الأبرار. وهذا تساؤل صحيح منطقي، فلا يعقل أن تُعدم أمة محمد ممن هو أفضل وأخلص وأذكى وأحرص وأعلم. ولكني أعتقد أن جواب التساؤل يقع في شقين. الأول: أنه -خاصة قديماً أيام سيطرة المذاهب- كل من خرج عن النمط المشهور من التراث الفقهي المُحرف مهما قوي تأصيله الشرعي وحجته العقلية فإنه سيُحارب بشتى أنواع المكائد، جهلاً أو حسداً. فإما أن يُفسق أو يُتهم. وإما أن لا يُعتنى بكتبه ورأيه فلا ينسخها أحد. وفي ذلك الزمان خاصة، إن لم تتوفر للفقيه قاعدة شعبية ضاعت علومه وكتابته.

والعامة قد خُدرت عن التأمل في نصوص الوحي فهم يسارعون في ذلك تعبداً لله، أو لم يرجموا الإمام البخاري وأخرجوه حتى مات طريداً شريداً، وصدق القائل «فإنّ قَليلَ الحُبّ بالعَقْلِ صالِحٌ وَإنّ كَثيرَ الحُبّ بالجَهْلِ فاسِدُ».

وقد يُحرف ويُزور كلامه من قِبل الفقهاء والنُساخ، فيُنقل إلينا ما لم يقله وقد ينقل إلينا مختارات من بعض ما قال تُضلل الباحث عن مدرسة الفقيه الاستنباطية وعن آرائه التصحيحية.

وقد يكون منقولا ولكنه ما زال مجهولاً. فعلى سبيل المثال، فهذا شيخ الإسلام بن تيمية فلولا انتصار الدولة السعودية للدعوة السلفية، لكان شيخ الإسلام اليوم نسياً منسياً أو معدوداً من الفُساق. وشيخ الإسلام كان له بعض الخروج على النمط إلا أنه كان يغلبه سيطرة ثقافة فقه زمانه فيعود إليها. ولو أنه انطلق رحمه الله في فكره التصحيحي (كما فعل في الطلاق الثلاث وفي إخراج حكم الفعل المجرد المقيد إلى حكم المعنى المطلق، كالقصر في السفر مطلقاً بدلا من تحديد المدة أو المسافة) وما انشغل بأهل الكلام وبمذاهب الفقهاء، لكان للمسلمين في فقههم شأنٌ آخر.

ومن يدري فلعله لو فعل لاتُهم بأعظم مما اُتهم به، فقد طالب بعض علماء وفقهاء عصره بقتله ردة. كما يتهمه اليوم كثير، عن جهل أو خبث. ولعله لو فعل -رحمه الله-، لما وصلنا شيء من علومه أصلاً، ولعله ذُكر في التاريخ من الفُساق والزنادقة. ومن يدري فلعله خرج في آخر حياته في كثير من الأمور عن النمط الاستنباطي المألوف والأقوال المشهورة، ووضع القواعد والأصول في آخر حياته ولكنها أُعدمت. فالاستقلال والنضوج الفكري الكامل لا يصير إلا في آخر مرحلة الطلب.واستبعاد هذا من التنطع، فقد تقَوّل الوعاظ والعُباد على رسول الله تعبداً، يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

وقد حرف الفقهاء معاني الأحاديث والآيات عن معانيها الواضحه انتصاراً للرأي أو للمذهب، أفلا يُفعل هذا في أنداد لهم وقد فُعل في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ودخله ما دخل من الوضع رغم جهد الجهابذة في تصفيته من أحاديث الوضاع.

والشق الثاني هو أن كثيراً من المسائل في باب المعاملات الاقتصادية قد يصعب تصورها في ظل الاقتصاد الإقطاعي البسيط الذي كان قائماً في العهد النبوي ثم عبر القرون الماضية التي تبعته بعد ذلك. وهذا من إعجاز التشريع. فعظمة التشريع أنه موافق لكل زمان ومكان، فتصور المسائل قد يصعب فيما مضى، وأما اليوم فهي أمامنا تعرض نفسها لا تحتاج لعناء فكر ولا تفكير ولكن تحتاج للتخلي عن تقليد العباد والإقبال على وحي رب العباد بقلب مؤمن حقاً بحكمة التشريع الرباني. فلا ينصرف الجهد إلى التحريف والتزوير والإخفاء والتحايل ونسج القصص الخيالية وقلب الحقائق من أجل تمرير فقه لا يطابق الواقع ولا تظهر فيه حكمة تشريعية بل هي على النقيض تماماً.

وختاما، فوالله لولا الحياء من الأمير الذكي المؤدب الراقي عبد العزيز العياف الذي راهن علي بمنح ثقته لي، لتوقفت بعد الباب الأول.

ولموقف الأمير الدكتور العياف في دفعي لكتابة هذا الكتاب وما أوصاني به، وبذله جاهه وماله في ذلك وقفة طويلة، أؤجلها فأجعلها فصلاً للاْعتراف بالفضل لأهل الفضل في الكتاب، وأختزل ما نفسي الآن في بيان موقف حرص الأمير الراقي -عبد العزيز العياف- وصرف همه وذكائه وإخلاصه لدينه وبلاده بالفعل لا بالقول بقول المتنبي «وَكلٌّ يَرَى طُرْقَ الشّجاعَةِ والنّدى وَلكِنّ طَبْعَ النّفْسِ للنّفسِ قائِدُ».

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب