20-09-2014

وإذا السيوف تكسرت أنصالها

المنظومة العربية أو النظام العربي الآن في مأزق ويعاني من شروخ تتسع يوماً بعد آخر، ومن ضبابية في الرؤية.. فميزان العمل العربي المشترك اختل إلى درجة متدنية جداً واستبدل بمبدأ «عليكم أنفسكم» وهو أخطر ما يمكن تصوره في عمل إقليمي مشترك.

قارن معي: بمجرد ما تم اكتشاف مشاركة القوات الروسية بشكل مباشر في عمليات عسكرية داخل أوكرانيا في انتهاك سافر لسيادة ذلك البلد اجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي مدعومين بتقارير استراتيجية وبحضور الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، وبحضور الرئيس الأوكراني بوروشينكو والأمين العام للاتحاد الأوروبي ورئيس المفوضية الأوروبية، وتلا ذلك اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي أنفسهم بسرعة فائقة (28 دولة تتحدث أكثر من عشرين لغة مختلفة) لأخذ التدابير اللازمة في حق دولة نووية عظمى حيث كانت محددات التعامل ستختلف لو كانت محل روسيا دولة أخرى كصربيا مثلاً. ولكن مع ذلك تحسب للاتحاد الأوروبي هذه الوحدة على رغم الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها العديد من دوله، كما يحسب له هذا الإجماع في أخذ القرارات والتدابير على رغم اختلاف حجمها والإمكانيات المادية والعسكرية التي تتوفر عليها كل دولة على حدة.. أما نحن فمنظومتنا العربية وصلت إلى الحضيض وبدأت الأحلام تتفتت والآلام تطيح بها الخلافات اللامتناهية، كما أن الإشارة الوحيدة الدالة على أن ثمة حلماً عربياً بالوحدة والتواصل أدخلت إلى مستودع حتى حين.

وقد ظن كثيرون منا أن الإصلاحات السياسية البنيوية التي جرت في عدد من الأقطار العربية كليبيا، حيث كان زعيمها المقتول معمر القذافي يؤثر سلباً على العمل العربي المشترك والوحدة العربية، ستؤثر بدورها في المدى المتوسط على إصلاح جامعة الدول العربية، ما دام إصلاح البيت العربي المشترك يمر بإصلاح البيت الداخلي لكل دولة عربية على حدة... ولكن نسائم تلك الإصلاحات تحولت إلى نقم ومصائب وصراعات لا تنتهي. فكيف هي الخريطة الآن: ما تفعله المليشيات الإرهابية في ليبيا مفزع جداً، وهذا البلد رغم قلة ساكنيه وكثرة خيراته وموارده البترولية، وتموقعه الجغرافي الاستراتيجي الحساس، بات قاب قوسين أو أدنى من الحرب الأهلية التي ستقضي على الأخضر واليابس، وقد تقسم ذلك البلد تقسيماً يزرع فيه بذور الشقاق والتشرذم والحروب الداخلية بعيدة الأمد التي سيدفع ثمنها غالياً الإخوة الليبيون والمنطقة المجاورة بأكملها.

وكانت فرنسا، لما كان ألان جوبيه وزيراً لخارجيتها، قد حركت تدخل «الناتو» لإنهاء حكم القذافي، وهي تكتفي الآن بدعوة الأمم المتحدة لمساعدة ليبيا. كما أنه لا يبدو أن للإدارة الأميركية مخططاً للتدخل العسكري، بل ولا حتى خطة استراتيجية للتعامل مع تحديات الحالة الليبية.

والخلافات الحادة بين الليبيين تزداد وتتعقد يوماً بعد يوم؛ فهناك جماعة الثورة التي أطاحت القذافي، وهناك جماعة أخرى محسوبة على نظام القذافي نفسه. والجماعة الأولى انقسمت إلى فريقين بعد أن كانت جسداً واحداً: فريق ليبرالي مدني من أبرز قادته اللواء حفتر الذي انطلق من قاعدة عسكرية في بنغازي، وهناك فريق الإسلاميين وقادته «جهاديون» تمركزوا في البداية في أماكن فاخرة على بحر طرابلس. والانقسام بين الفريقين انطلق منذ الانتخابات المبكرة للبرلمان المؤقت، أي المؤتمر الوطني العام الذي تلا مقتل القذافي، حيث هيمن فيه الإسلاميون وأصدروا قوانين عجيبة كتلك التي تعزل الآلاف من الليبيين من العمل السياسي، إلى أن انتفضت شريحة كبيرة من الليبيين عليهم وعلى ميلشياتهم. وخلال هذه المدة، برزت في الساحة ملامح كل فريق وتمركزه وسياسته القتالية والتوسعية وأخطر المواجهات كانت على مطار طرابلس في أبشع صور نقلتها وسائل الإعلام الدولية: طائرات للشعب الليبي تحرق، وأخرى تسرق، ومطار يقصف ويدمر بأيدٍ باطشة كانت بالأمس القريب تقاتل جنباً إلى جنب لنيل حرية البلد وإطاحة نظام القذافي. والأخطر من هذا كله أن الإسلاميين المقاتلين يستعيدون «الجهاديين» الليبيين وغيرهم من العراق وسوريا ويدمجون في صفوفهم نشاط «الجهاديين» الفارين إلى ليبيا من مالي وغيرها، وتعمل هذه المجموعة مع جماعة «أنصار الشريعة» الموالية لتنظيم «القاعدة» التي تعمل هي بدورها مع مليشيات وكتائب لمتشددين كثر في بنغازي ودرنة. كما تعمل هذه المجموعة أيضاً مع «الجماعة الليبية المقاتلة» ذات العلاقة المتجذرة مع ما يعرف بـ»تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، دون نسيان المقاتلين الأجانب وهم بالآلاف ويزيد عددهم على 15 ألف مقاتل ينتمون إلى جنسيات مختلفة جزائرية ومصرية وتونسية وسودانية وأفريقية من النيجر وتشاد ومالي، وأيضاً من باكستان وبنجلاديش وأفغانستان.

أما العراق، الدولة ذات الألف مشكلة، فقد استولى على أجزاء من أرضه تنظيم «داعش»، وليس أمامه إلا القبول بمرارة ما كان يرفضه بالأمس من تسليح دولي للبشمركة، القوة الكردية المقاتلة، بمعنى خلق تحالف أمريكي- دولي- كردي. وبتعبير آخر تمكين القوات الكردية من الحصول على قبول دولي رسمي لبيع النفط من أراض يمكن أن تحصل عليها لحساب حكومة كردية «شبه مستقلة». أي أن شبح الانقسام وارد وتسليح الطوائف والملل في الطريق، والاصطدام بالأكراد وبالمكونات الشيعية في الجنوب وبغداد (آل الحكيم، المجلس الأعلى للثورة) والصدريين أمر لا مفر منه... والنتيجة أن العراق سيبقى هو أيضاً على صفيح ساخن.

ومن بين المفارقات الأخرى أن إيران بسياستها المعاكسة الدائمة في المنطقة في مأزق: فلا هي تريد أن تسحب أوراقها من العراق، وأن تتوقف عن التأثير على السياسة الداخلية في بغداد. كما أنها لا ترى بعين مرتاحة تفاقم خطر «داعش» أو التدخل الأجنبي في العراق. زد على ذلك أن لـ»داعش» امتدادات في سوريا، ولا تريد إيران أن يفتح الباب لتدخل دولي ضد التنظيم في العراق لكي لا يكون مطية لتدخل في سوريا. هذا طبعاً دون نسيان دعم أكراد العراق وتأثيراته على مستقبل تدخلات إيران في المنطقة.

كما أن النظام السوري يحاول أن يوصل رسالة مفادها أنه ما دام عدوي هو عدوك فنحن صديقان، فهي ترغب في جر القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية إلى سوريا لمحاربة «داعش» وذلك بإعادة تأهيل نظام بشار الأسد والاعتراف الواضح بأن ديكتاتوريته أفضل من إرهاب «داعش». وهل هناك مأزق في سلم الاستراتيجية سواء لدى الولايات المتحدة أو دول المنطقة أكثر من هذا؟

بالإمكان أن نكتب عن المفارقات والتناقضات والمستجدات في المنطقة لصفحات أخرى وكلها منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور... وهناك أمور معلنة وأخرى خفية -كطريقة بروز «داعش» بين عشية وضحاها وبعلم من المخابرات الأميركية- وهناك أمور حاسمة وأخرى مترددة مما يوقع الجميع في لجة من التناقضات في التصريحات وارتجال في أخذ التدابير... وفي أحوال مُرة كهذه كان على المنظومة العربية أن تتوفر على قوة للتدخل العسكري لكي تحافظ على المصالح العربية وتحقق السلام والاستقرار في المنطقة كلها، ولكن من يقول هذا الكلام كصالح في ثمود:

وإذا السيوف تكسرت أنصالها

فشجاعة الكلمات ليس تفيد

فهناك خلل خطير جداً وغير مسبوق في الوضع الإقليمي العربي، والغيوم البركانية تملأ الجو العربي، وقتامته هي اليوم مضرب الأمثال في مشارق الأرض ومغاربها، وقد باتت سلبياته تنخر جذور النظام العربي، وهناك حالة من الترقب مثيرة للقلق، والترقب في مجال العلاقات الدولية غالباً ما يخلق الالتباس السياسي والارتباك في الأولويات، والاضطراب في العلاقات الثنائية والإقليمية، وتكبيل النظرة والحركية الواقعيتين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

مقالات أخرى للكاتب