29-09-2014

التطرف يتمدد في الفراغ السياسي..

في علوم الطبيعة لا يوجد فراغ مطلق، وفي حالة تفريغ مكان ما من مادة تحل محلها مادة أخرى بصفات طبيعية مختلفة. كذلك في السياسة وجغرافيتها، لا يوجد فراغ مطلق، ودائماً ما تحل قوة أو سلطة أو جماعة محل أخرى إن تحركت من مكانها إلى مكان آخر. ولعل أشهر حراك لملء الفراغ في العالم عندما قدِمت أمريكا إلى الشرق من أجل ملء الفراغ الاستعماري بعد رحيل إنجلترا وفرنسا من مكانهما كقوى عظمى في الشرق الأوسط.

وقد عُرف ذلك بمشروع إيزنهاور، وتضمن تفويض الرئيس الأمريكي سلطة استخدام القوة العسكرية في الحالات التي يراها ضرورية لضمان السلامة الإقليمية، وحماية الاستقلال السياسي لأي دولة، أو مجموعة من الدول في منطقة الشرق الأوسط، ومنها المساعدة لمقاومة أي اعتداء عسكري سافر تتعرض له من قِبل أي مصدر، حسب المصدر الأمريكي، وتفويض الحكومة الأمريكية في تقديم مساعداتها العسكرية والاقتصادية في المنطقة..

على المستوى الإقليمي، حدثت أهم نقلة في نظرية ملء الفراغ في الشرق الأوسط بعد نكسة 1967 وبدء مرحلة اختفاء المد القومي العربي، الذي تلاشى من الجغرافيا السياسية تدريجياً، لتحل مكانه الأصولية الإسلامية خلال عقود، التي ساهمت القوى الإقليمية والعظمى في نموها وتمددها في الفراغ الذي خلفته أفول تيار القومية العربية وخروجها من الحيز السياسي..

كان إطلاق الأصولية الإسلامية لأهداف، منها محاربة المد الشيوعي، ومنها أيضاً الاعتقاد أنه بالإمكان السيطرة عليها من خلال الخطاب الديني الرسمي، لكن ذلك لم يحدث، وحدث الانشقاقات الكبرى، وخرجت سلفية جهادية من رحم التقليدية، واستغلت حركة الإخوان المسلمين الفراغ السياسي وتمددت في كل اتجاه، الذي وصل إلى ذروته في فصل الثورات العربية، وكان نموها على حساب حركات السلفية الجهادية والتقليدية..

لم يحسن قادة الحركة التعامل مع الواقع الجديد، وربما أحدث وصولها إلى الكرسي بعض القلق والخوف من تبعات ذلك الوصول المفاجئ للإسلام السياسي، وكان القرار إعلان الحرب عليها، وقد كانت النتيجة أن تلاشت تدريجياً بعد اعتبارها حركة إرهابية، ومصدراً للعنف في العالم الإسلامي، وقد أحدثت الحرب عليها فراغاً سياسياً كبيراً، وكان البديل حركات أكثر تطرفاً في سوريا والعراق، لتخرج النصرة وداعش لتملأ فراغ الإخوان السياسي..

وفي اليمن أدت الحرب على الإخوان ومطاردتها من قِبل القوى المضادة لأفكارها السياسية أيضاً إلى حدوث فراغ كبير، وكانت الحركة الحوثية المتطرفة جاهزة للتحرك بدون مقاومة في ذلك الفراغ من جهة، وفي جهة أخرى خرجت الجماعة المتطرفة جداً القاعدة للدفاع عن السنة في اليمن، وكأن الحراك لملء الفراغ السياسي تتجه بوصلته نحو التطرف والعنف في المنطقة العربية..

في هذه الأيام بدأت حملة دولية للحرب ضد التنظيمات السنية المتطرفة في العراق والشام، وأعني بذلك داعش والنصرة؛ وذلك لوقف توسعهم وتمددهم في الفراغ الكبير في الشام والعراق، وقد تنجح القوى العالمية في ذلك، لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: من سيملأ ذلك الفراغ بعد رحيلهما من بلاد الشام والعراق؟ بطبيعة الأشياء تتمدد العناصر الأقرب، وستكون القوى الشيعية المتطرفة الأوفر حظاً في التحرك في اتجاه الفراغ السياسي..

وسيكون الوضع في المستقبل أكثر كارثية؛ إذ ستمانع الغالبية في الشرق التمدد الشيعي في الشام واليمن، وسيؤدي ذلك إلى مزيد من التطرف والفتن والقلاقل، وقد تستمر الولايات المتحدة في أداء دور الشرطي في المنطقة، من خلال تدخلاتها العسكرية، لكن ذلك قد لا يستمر طويلاً، فقد تبدأ في المستقبل القريب مرحلة انحسار القوة الأمريكية في المنطقة بسبب أزمات الاقتصاد، وسيتطلب الأمر قوة استعمارية أخرى للعب دور الشرطي والموجه السياسي في المنطقة..

لكن قبل ذلك ستدفع الأنظمة والشعوب في المنطقة ثمناً غالياً بسبب غياب مفاهيم الديمقراطية بينهما، وبسبب طغيان ثقافة الاستبداد عند مختلف مكونات النظام السياسي العربي، بسبب سياسة فرض الرأي الواحد، ومطاردة المعارضة السياسية المعتدلة، وهو ما ترك الفراغ كاملاً لانتشار قوى التطرف السياسي في حيز الفراغات السياسية حول وبين دول المنطقة.

مقالات أخرى للكاتب