30-09-2014

شر استئصاله واجب

عاش العرب الجوع والفقر لقرون، وكانوا يقطعون الفيافي المخيفة بشكل يومي يتقاسمون فيه هذه الفيافي، حسب ما يعتقدون، مع الجن، والغول، والسباع والضباع ولم يخافوا أيًا منها، إلا أنهم كانوا يخشون بشكل استثنائي المجنون والمختل عقلياً. فالمجنون إضافة لانعزاله في واقع خاص به لا يمكن التنبؤ بما يقدم عليه،

وإذا كان عنيفاً فعنفه لا يعرف حداً أو قيداً، وذلكم هو داعش والمنظمات التي تتبنى أيدلوجيات عنيفة غير واقعية، وتمارس إرهابها بلا حدود. فالجنون، تاريخياً، ليس فردياً فحسب، بل قد يكون جماعياً أيضاً. وشهد التاريخ البشري عموماً سلوك جماعات كثيرة بشكل جنوني إن قديماً أو حديثاً. فقد مارس الخوارج القتل والتدمير والاغتيال من فجر التاريخ الإسلامي، ودمر المغول الجزء الأكبر من الحضارة الإسلامية وأحرقوا الكتب ودور العبادة، وسبق أن حاول بعض القرامطة نقل الكعبة للأحساء!! وقبيل عقود من الزمن ظهرت في أمريكا جماعة دينية مسيحية متطرفة بقيادة تشارلز مانسن قتلت مجموعة من الممثلين في هولويود قبل إيقافها وسجن أفرادها، وبعدها انتحر في أمريكا ستة آلاف مواطن غرر بهم في إنديانا جونز، وظهرت جماعات في اليابان تنشر الغاز السام في محطات القطارات وهناك أمثلة كثيرة أخرى لا مكان لذكرها.

والجنون لا يعني بالضرورة فقدان العقل تماماً، فالاختلال الذهني قد يحيل الإنسان إلى كائن عاجز غير مضر، ولكن الجنون الأخطر هو أن ينتشر في جماعة ما تصورات خاطئة عن العالم ينزلونها منزلة المعتقد ويحاولون فرضها على العالم بالعنف والقتل، وداعش ليست إلا جماعة مصابة بهذا النوع من الجنون وتحمل تصورات غير واقعية من الماضي عن العالم من حولها وتحاول أن تفرض هذا الواقع الذي تجاوزه العالم منذ آلاف السنين بالقوة على شعوب آمنة لا تمت لها بصلة. وقد ظهر هذا التنظيم فجأة واستولى على مساحة كبيرة من الأرض، وكثير من المال، فشكل منخفضاً سياسياً جاذباً للإرهابيين من كل مكان، حضروا ليمارسوا غرائزهم بدون شرط أو قيد، فشرعوا في القتل والاغتصاب وقطع أعناق الأبرياء بشكل استعراضي أمام وسائل الإعلام، مبررين ذلك بتطبيق الإسلام.

والمصيبة الأكبر هي أن داعش مارست الإعدامات الجماعية وترحيل الآمنين من ديارهم وتغيير واقع جغرافي وسكاني موجود من قرون خلت بالعنف والإرهاب، كل ذلك باسم الإسلام في وقت يحاول فيه المسلمون المخلصون دفع تهمة الإرهاب عن الإسلام والمسلمين التي يحاول أعداء الإسلام إلصاقها به. فداعش تعيش خارج نطاق التاريخ والجغرافيا وتمارس ذلك بؤسائل خطيرة وعنيفة. فهي لا تؤمن بحدود ولا اتفاقات ولا معاهدات ولا غير ذلك من الأمور التي تستند عليها الأمور السياسية الحديثة وتحفظ السلم والسلام. وهذا أمر خطير جداً قد يدخل المنطقة في صراعات تستمر لعقود قادمة في وقت فيه المنطقة أحوج ما تكون للسلم والتنمية. ولم يستبعد كثير من المحليين السياسيين أن تكون لبعض الأنظمة الفاشية في المنطقة دوراً في تأسيس داعش وإطلاقها في المنطقة كخيار شمشوني أخير في حال سقطت هذه الأنظمة أو فشلت مخططاتها. فداعش إضافة لكونها ظاهرة خطيرة هي أيضاً ظاهرة غامضة. وكان أن استشعرت الدول الحريصة على سلام المنطقة وتنميتها هذا الخطر الداهم فلم يكن هنا خيار آخر سوى مواجهته. وكانت المملكة العربية السعودية حكومة وشعباً على رأس هذه الدول، فالجميع ينظر للمملكة كعامل استقرار ودعم في المنطقة الذي يلعب غيرها فيه دور الهدم وزعزعة الاستقرار. وقد نجحت المملكة لمكانتها السياسية والإستراتيجية في حشد تحالف إسلامي عربي دولي ضد هذه الفئة الضالة للحد من توسعها والقضاء عليها.

والمملكة في طليعة هذا التحالف ضد الإرهاب الجديد لما تملكه من خبرة وتجربة عريضتين في محاربة الإرهاب سواء مادياً أو فكرياً. والمملكة لما لها من مكانة في قلوب المسلمين لما تقدمه لهم ولمقدساتهم من رعاية ورفادة مثلت دائماً وتمثل الإسلام الوسطي المتسامح الذي يراعي مصالح الجميع ويسعى لترسيخ السلم والتعاون الدوليين، ولها دور دولي إستراتيجي في رعاية التقارب والتسامح بين الأديان وترعي أكبر مؤسسات حوار الحضارات والأديان في العالم، ولذا فلا بد من أن تنهض بواجبها الذي يتوقعه المسلمون والعالم منها في خدمة الإسلام والمسلمين بقيادة هذا التحالف.

وقد أجمعت جميع الهيئات التي تمثل عموم المسلمين، وغالبية علماء المسلمين على أن داعش تنظيم إرهابي خارجي خطير وحرموا الانضمام إليه. فأصدرت هيئة كبار العلماء في المملكة بياناً وصفت فيه الإرهاب بأنه جريمة تستهدف الإفساد بزعزعة الأمن والجناية على الأنفس والممتلكات الخاصة والعامة؛ كنسف المساكن والمدارس والمستشفيات والمصانع والجسور، ونسف الطائرات أو خطفها، والموارد العامة للدولة كأنابيب النفط والغاز، ونحو ذلك من أعمال الإفساد والتخريب المحرمة شرعاً. «وأنه بالنظر إلى أعمال الإرهاب، الصادرة عن بعض الجماعات مثل: «داعش» و»القاعدة»، وما يسمى بـ»عصائب أهل الحق» و»حزب الله» و»الحوثيين»، أو جرائم الإرهاب التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، أو الأعمال المجرمة التي تمارسها بعض الفرق والجماعات المنتسبة إلى الإسلام؛ فكلها محرمة ومجرمة»؛ وأعلنت هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في مصر، أن وصف تنظيم «داعش» بـ»الدولة الإسلامية» دعوى كاذبة وإساءة بالغة إلى المسلمين والإسلام، لافتة في اجتماع لها أمس بأعضائها كاملين، أن «داعش» خارج عن صحيح الدين وتعاليم الإسلام. وقد أجمع 126 عالماً من علماء الأمة في اجتماع لهم بأن داعش تنظيم إرهابي، وحرم الجميع الانضمام له.

فحرب داعش أصبحت ضرورة لا بد منها، لأنه لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تقدم عليه، فهي تتحرك في كل اتجاه وتقتل وتسلب وتغتصب بلا رادع، ولم تراع لا طفلاً ولا شيخاً ولا إمرأة، كما أن هذا التنظيم قوض الحياة الآمنة والتعايش السلمي بين المسلمين وأقليات من الديانات الذمية الأخرى كالمسيحيين واليزيدين وغيرهم، وهي أقليات تعايشت مع المسلمين من صدر الإسلام حتى اليوم، وقد أبقى الصحابة والتابعون ومن تبعهم على دور عبادتهم وأماكن سكنهم ومعاشهم دون المساس بها، فأقدم هذا التنظيم على تفجير وهدم دور عبادتهم التي وجدت لمئات السنين وشرد أهلها ونشر الرعب والذعر بينهم. وهذا لا يمكن أن يكون من الإسلام، بل ومن واجب الدول التي ترعى الإسلام وتحافظ على سلامة فكره ومعتقده أن تحارب هذا التشويه المتعمد لدين عظيم قدم للبشرية أرقى المفاهيم الإنسانية و الفكرية.

فلا غرابة إذاً أن تنهض المملكة بواجبها الديني التاريخي تجاه الإسلام بتشكيل تحالف دولي لمحاربة هذا الخطر الداهم، ليس لحشد تحالف عسكري مادي، ولكن لتكون هناك مشاركة وتعاون دوليين ضد الإرهاب من أجل تعزيز هذه الرسالة النبيلة دولياً ولجعل الإسلام في قلب أي تحرك للحفاظ على القيم الإنسانية الدولية التي ترعي السلام والأمن الدوليين. فالمجتمع الدولي أجمع ألا مكان للإرهاب أياً كانت مصادره أو مبرراته، وأنه لا مكان لترويع الآمنين أو التعدي على سلمهم وما لهم لأي سبب كان، وهذه رسالة تضامن عالمية موجهة للعالم أجمع، وتضع المملكة، كممثلة للعالم الإسلامي، في مقدمة الدول التي تحرص على الأمن والسلم الدوليين، فهذا واجب إسلامي ويعكس أهم القيم العليا المعروفة عن الإسلام في تاريخه الطويل.

ولذا حرصت المملكة أن تكون هي أول من يبدأ الغارات الجوية الهادفة لتطويق هذا الجنون الذي يمارس باسم الإسلام، لأن ذلك واجب على المسلمين ويعنيهم في المقام الأول، كما أن القيادة - حفظها الله - حرصت على أن يكون من أبنائها أول المشاركين في شرف تحقيق هذا الهدف النبيل، والدفاع عن الدين والوطن، ولتؤكد أن القيادة والشعب جسد واحد متلاحم في الدفاع عن المقدسات والثوابت.

حفظ الله وطننا من كيد العابثين، وديننا من عبث المحرفين.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب