30-09-2014

الُمقَارَبَاتُ النَّقْدِيَّةُ مُوْبِقَةٌ، أَوْ مُعْتِقَةٌ..!

تُراودُني مع تخوفي رغباتٌ ملحةٌ في تجميع ما تشابه من مقالات، وبحوث، ومحاضرات عن شخصيات أدبية، أو فكرية سعودية، وإصدارها في كتاب تحت عنوان (مقارباتٌ نَقْدِيَّةٌ لشخصياتٍ سعوديةٍ).

فلقد سوفت بما فيه الكفاية، ولم يبق إلا الإفراج عن تلك المخطوطة، والدفع بها إلى فضاء الله الرَّحْب، الذي وسع الغث والسمين. ليأخذ الكتاب طريقة القاصد، أو المعوج إلى قارئ، لا أحسبه حفياً به، ولكنه سيكون بين يديه، أو قريباً منه، أراد، أولم يرد. والكتاب مجموعة دراسات، ألَمَّ ببعضها المعنيون عبر وسائل الإعلام المقروء، والمسموع، وكانت لها ردود أفعال تتراوح بين العنف والأعنف. وقد يكون لها مثل ذلك، حين تنفذ إليهم مرة ثانية، مجموعة بين دفّتي كتاب.

وهي إذ تكون مقاربة نقدية، فإنّ المتلقي - متخصصاً كان، أو هاوياً للقراءة الحرة - متحفزٌ لمزيد من المناكفات التي هي قَدَرُ الكاتب، ونصيبه، حين يفصح عما يراه.

وعلى كل مستويات الرفض، أو القبول، فقد استفدت من التصديات الموضوعية، والاهتياجات العاطفية. فالتصدي والاهتياج يكرسان الحضور، ويصقلان المواهب، ويكشفان عن مواطن الضعف. وقد يثنيان العزمات غير الممحصة.

لقد اعتدت ألَّا أقطع أمراً، حتى أجس النبض، وأرصد المواقف. وإن كانت بنات الأفكار كالبنات الأبكار، يغار عليها صاحبها، ولا يقبل المساس بها.

وكل منجز مع صاحبه، كما الفتاة المعجبة بأبيها. وفي الأمثال:- [كل فتاة بأبيها معجبة]. ولهذا فمن الصعوبة بمكان تهدئة ما يجيش في النفوس من سخط على من يعترض سبيل المتحدثين عما يساورهم.

وما من مبدع لقول، أو منجز لكتاب، إلاّ هو على قناعة تامة، بأنّ قوله صدق، لا يحتمل الكذب، وفصل لا ينازع القول، وإن لم يكن في الحقيقة قريباً من الصدق. وذلك مصدر التنازع، والتنابز، ومقاربة الموبقات.

ولو أنّ أرباب الكلمة انتظروا مطابقة القول لمقتضى الحال، لكُمَّتْ الأفواه، ورُفعت الأقلام، وجفّت الصحف.

والمغالبة الشقية لا عوض لها. فما من كاتب، أو مبدع إلا هو مُؤْثِرٌ على نفسه، وإن كان به خصاصة، ومطعم لوجه الله من يود إطعامه. لا يريد من وراء ذلك جزاءً، ولا شكوراً.

وليس غريباً أن ينقطع المبدعون، والكتبة للإيثار، والإطعام. فقدرهم أن يعطوا بلا ثمن، بل يعطوا، ويدفعوا الثمن. وتفانيهم لا يخلصهم من المسكنة، كما أهل العشق، الذين يقول الشاعر بحقهم:-

[مَسَاكِين أَهْلُ العِشْقِ حَتَّى قُبُورُهُـمْ

عَلَيْها تُرابُ الـذُّلِّ بين المَـقَابِـر]

والحديث عن شخصيات حية، أو محمية الساقة حديثٌ، يقف بالمتحدث على شفير المشاكل، وتتنازعه المصداقية، والمجاملة. ولكل منهما ثمن باهظ التكاليف. فالمصداقية كقول الحق، أو هي أشد. وقول الحق لا يبقى لقائله صديقاً، والمجاملة كالمدح، أو هي عينه. ومن ثم لن تُبقِيَ للمدَّاح محباً، ولا مُكْبراً.

وكيف يقبله الأسوياء من الناس، وحقه حثو التراب في وجهه. ومن أخذ بأحد الخيارين الصَّعب، والأصعبِ دفع الثمن الباهظ. وهذا قدر الناقد الذي يراه [عبدالوحد لؤلؤة] كالنافخ في الرماد، بحثاً عن جذوة. وكل نافخ فيه، لا ينجو من تطاير ذرّاته التي تعشي العيون. وتزكم الأنوف. وتدنس الأثواب. وكأني به يقترب من نافخ الكير، الذي جُعِل وصفاً لجليس السوء.

والناقد المسكين يخرج من غائلة إلى أخرى، مفرطاً بأصدقائه، مرهقاً لأعصابه، دون أن يشعر بالعناء. فهو كالأم الرؤوم، تمارس وظيفة الأمومة ممارسة غريزية، تعطي كما لو كانت مخلوقة للعطاء، بحيث لا ترقب بعض ما تعطيه.

إنّ حسابات المبدعين، والمفكرين تختلف عن حسابات أهل الدثور، فهم لا يقيمون وزناً لحساب الربح والخسارة. ولا ينشدون الرفاهية، ولا الراحة. قَدَرُهم أن يكونوا أمام قضايا تقض مضاجعهم، ثم لا يجدون راحة الضمير، إلا بالسعي إليها، وظنهم الذي أشقاهم، أنهم وحدهم المسؤولون عن قضايا الأمة، وفوات الوقت عندهم كفوات الصفقات التجارية عند الأثرياء.

وإذ ذهب أهل الدثور بالأجور، فإنّ المبدعين والمفكرين يذهبون بشجب الجمهور. فالناس ليسوا على قلب رجل واحد، وإذا سعد المضاربون بعروض التجارة، فإنّ أرباب القلم يسعدون بالتخلُّص من المعاناة. فالكلمة عندهم مخاض عسير الولادة. لا يجدون الراحة حتى تقذفها شباة القلم، أو تنفرج عنها الشفاة التي تجمدت عليها كل الآمال.

وما قيل عن أديب، أو مفكر إنه أثرى من حرفة الكتابة، وشهوة الكلام. بل قيل عن المعوز منهم:- [أدركته حرفة الأدب].

وإذا كان ذلك قدر المبدعين والمفكرين، فإنهم راضون بقدرهم. وما يريدون من المتلقي إلاّ اللطف فيه، وتخفيف وطأة المواجهة.

وكم من مبدع، أو مفكر خسر الدنيا والآخرة. وذلك هو الخسران العظيم، فبعض حملة الكلمة يهدمون ما بينهم، وبين ربهم، وما بينهم، وبين الناس. والمغموسون في المشاهد يعرفون كلاً بسيماهم، وما من مجازف بأشيائه، إلا وله يوم موعود. وكيف لا يكون، والله يقول:- {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وهل بعد شهادة المرء على نفسه من شهادة؟.

لقد كان الشاهد من الأهل من أزكى الشهود. فكيف به إذا كان هو الخصم والحكم:-

{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}.

وهو حين يستعرض مقترفاته، لا ينكرها، ولكنه يتساءل بامتعاض {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا }. وفي النهاية يقول الحق {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.

والمشاهد الثقافية مليئة بالمخدوعين، والمتأولين، والمأجورين، والكلمة أمانة، وإبلاغها: إما عمار، أو دمار. والمقلِّبون لها للارتزاق، أو للبروز يحملون أوزاراً مع أوزارهم.

وخير لكل من لم يجد في نفسه الكفاءة، والقدرة أن يتجاوز ما لا يستطيع أداءه، وما لا يضمن نفعه. وكم من كَتَبَةٍ أمضوا عقوداً يكتبون، ولا يزالون كما هم، لم يؤثروا، ولم يتأثروا.

وإخلاءُ المواقع لمن يترك أثراً معرفةٌ محمودةٌ لقدر النفس.

ولقد دُعِيَ بالرحمة لكل من عَرَفَ قدر نفسه.

قال لي أحد القراء المترفين ذات مرة: مالك لا تقوم بدراسة نقدية، لما يصدر من أعمال إبداعية. وكان يظن أنّ عملاً كهذا من السهل أداؤه.

قلت له: مللتُ من التفريط بالأصدقاء.

قال: كيف؟.

قلت: كل مقال من هذا النوع، أفقد فيه أكثر من صديق.

ألم تسمع قول أحد الحكماء:-

- لم يترك قول الحق لي صديقاً.

إنّ الكلمة رسالة، والذين حملوها من الرسل، والأنبياء قُتِلوا، أو أخْرِجوا من ديارهم. حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: {مَتَى نَصْرُ الله}.

أيحسب المترفون أنّ الكتابة رحلة استجمام، يستفيد فيها الكاتب، ويستعيد بها نشاطه. إنها مغامرة في مفازةٍ مسبعة. والمغامر كما الصعلوك الذي:-

[طـافَ يَبْـغِي نَجْـوةً

مِـنْ هَـلاكٍ فَهَـلَك ].

الكلمة، والرصاصة رضيعا لبان، وصنوان، فمن حَمَل أحدهما، فعلية أن يحمل كفنه. فإما أن يلف جَسَده، ويواريه في التراب، أو يلف سمعته فيقذف بها في مزبلة التاريخ.

وعلى ضوء ذلك فالمقاربة النقدية موبقة للمجازفين، أو معتقة للمتحرّين للصواب. ومع هذا فالكاتب، والناقد، لا يترددان في ممارسة الكتابة. إنها مخاض، لابد من التسليم له، وتحمُّل آلامه.

يقال هذا فيمن يتحدثون عن الإبداع، والمبدعين. فكيف بالحديث، والمتحدث إذا اجترح عوالم الفكر، والدين، والسياسة، وقال فيها ما لم تألفه العامة، أو ما لا يتفق مع رأي المتنفذين.

إنه القدر العصيب الذي ألفه أرباب الكلمة، وتلبّسوا به صابرين محتسبين.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب