04-10-2014

فؤاد الخطيب: شاعر النهضة العربية (1)

قبل أن نعرف شاعر النهضة فؤاد الخطيب - رحمه الله - كنا هنا في الحجاز نصغي إلى «الجسيسة» في المناسبات، ولاسيما في مكة وجدة، يتغنى «حسن جاوا» - رحمه الله - بصوته الشجي موسيقي النبرات، تردد أبياتاً عن «الطائف»، أيام كان الطائف حفيلاً ببساتينه التي تملأ أرجاءه، يتخذ منه الملك عبدالعزيز رطب الله ثراه مصيفاً، وكذلك أهلنا في أم القرى يصعّدونا الجبال المفضية إلى هناك، إلى النسمات الباردة العبقة هروباً من لفح الهجير قبل أن تحل الكهرباء في البلاد بإضاءتها وهواء «المراوح الكهرباوية»،

يومئذ كانت الحياة المتواضعة سعادة، يحف الناس الأنس والحياة الكريمة رغم شح المال؛ ذلك أن كثرة المال لا تشيع السعادة، ولكن الاطمئنان والقناعة والرضا بالقليل كانت سبيل القناعة، وكان الناس ودودين وقريبين بعضهم من بعض، لكن كثرة المال أشاعت الانشغال بالحياة ومالها، فبعد من كان قريباً، حتى البنوة والأرحام، شغلوا وبعدوا؛ شغلتهم الدنيا حتى إن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - «حذّر» من الدنيا وشواغلها ولهوها؛ ذلك أنها «لهو وزينة ولعب» كما وصفها الكتاب العزيز.. وطريق الطائف كانت عسيرة وعرة، يطول الوصول إلى هناك. وقد تحدث الكاتب والشاعر والدبلوماسي بعد ذلك الأستاذ خير الدين الزركلي صاحب «الأعلام» في تراجم المشاهير، وكتب صفحات عن ذهابه إلى الطائف في وقت مبكر قبل تمهيد الطريق والسفلتة، وذلك في عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله.

تلك الأيام الخالية كان الأنس في لياليها عبر تلك الأصوات المكية تترنم برفيف الشعر الذي يهز الأعطاف عبر إنشاد تلك البلابل. يومئذ كان حسن جاوا و»الكدرس» وبلابل في المدينة المنورة. كان الأنس العفيف شائعاً في مدننا في أمسيات على شاطئ البحر وليالي الأفراح. في تلك الأيام كان يردد قصيدة الطائف، وكان كثير منا لم يسمع باسم شاعر النهضة فؤاد الخطيب وقصيدته عن «الطائف». كنا نسمع ذلك الشعر الطلي تردده أنغام المنشدين. وبمناسبة الحديث عن ديوان الشاعر الذي طبعته «المجلة العربية» برئاسة الأخ الدكتور عثمان الصيني في طبعته الثانية بعد الطبعة الأولى التي عني بها معالي الشيخ محمد سرور الصبان - رحمه الله - في عام 1959م؛ لذلك عنّ لي أن أبدأ حديثي عن شاعر النهضة بتلك القصيدة المشهورة منذ عقود عن الطائف؛ إذ ردد الشاعر المتغني بالطائف، وقال:

أيها الهاجع قد حان البكور

وانطوى الليل كما تطوى الستور

نثرت في أرضها حصباؤها

درراً تنجم منها وشذور

ومشى الجدول في أرجائها

كوثراً يسبح فيها ويمور

كلما استضحك عن لؤلؤة

هتف في فنن الأيك الطيور

قل لمن ألهمها تسبيحها

هكذا الجنة والعبد الشكور

فسل «الطائف» عن أيامنا

تنطق الدار وأبراج القصور

هكذا تغنى ابن لبنان بالطائف ومروجها وخرير مياهها ونسيمها الفواح؛ لأنه وجد في هذا المصيف وحوله «وادياً غير ذي زرع». رأى الشاعر بعض ما في هضاب وأودية لبنان وخرير المياه، وإذا الشاعر بمدينة الطائف، ولاسيما يوم كانت جنات معروشات يتخللها نسيم فوّاح رقيق عبق. وحق للشاعر أن يتغنى بتلك الرياض الوادعة في ذاك الإيناس الحالم والمناخ العاطر.. ونردد مع شاعر رؤى لبنان في حدائق الطائف قوله:

والمروج الخضر في رأد الضحى

لبست ثوبين من نور ونور

وخلونا بين أحشاء الربا

خلوة الورق جثوماً في الوكور

وتشاكينا تباريح الجوى

حولنا السوسن مستحي غيور

كم نفضنا الصدر من كل أسى

ونسينا الصد والجَد العتور

حتى قال:

أشرق البدر علينا ورنت

نحونا الأنجم كالأعين حور

مرحباً بالفجر والصوت الذي

قرع السمع بشيراً بالبكور

ولقد خطّت يد الله على

صفحة الكون من الخلق سطور

ما الذي نأمل من يوم غد

وغد كالأمس تطويه الدهور

رغم طول القصيدة في ديوانه الذي تصل صفحاته إلى (659) صفحة إلا أن الألفاظ السلسة والمعاني والمفردات أضفت على القصيدة الجمال..

فالشاعر ألبس المروج في وقت الضحى وانبساط الضوء ثوبين، أحدهما من نورٍ ونور، ويعني بالكلمة الأولى النور الزهر، أما الثانية فيشير إلى البياض منه.

ينتقل من بيت لآخر كعصفور مسهب في روض الطبيعة، وبساطها الزمردي، الموشى بعبق الأزهار كسوسن، ونسيم الروض، والروابي. التراكيب والمعاني جاءت في القصيدة قوية، فمن ظل الهوى الذي تمنى قضاه ذاك اليوم، فكم تمنى لو طال شهوراً، إلى صورة العوسج، تلك الشجرة ذات الشوك المنبث بين الصخور.. فمن غلس الليل إلى إشراق البدر وانبثاق الفجر توالي الصور الإبداعية التي يطلقها الشاعر للجمال، وتموج الوصف المنداح في نفسه التي جاشت بها صدره عن الطبيعة وأخرى رانية.. وهو يلفت الإنسان إلى التأمل فيما حوله؛ لأن النوم سيأتي لا محالة، وعندها سيكون نوماً طويلاً كما وصفه في الأبيات الأخيرة.

عن الشاعر الكبير فؤاد الخطيب - رحمه الله - كتب ابنه رياض الخطيب نبذة موجزة عن والده فقال: «الشيخ فؤاد الخطيب - رحمه الله - هو وإن كان غنياً عن التعريف بشعره وأدبه، إلا أن سيرة حياته والكثير من أخلاقه وصفاته أمر لم يبحثه الناس، ولم تتداوله الكتب أو الجرائد والمجلات؛ فبقي أغلبه غير معلوم! إلا من أهله، خاصة أصدقاءه وعارفيه. فلقد كان - يرحمه الله - أبعد ما يكون عن الدعاية لنفسه أو الإعلان عنها! بل كان يعمل في صمت وهدوء، وما يعتقد أنه الحق والخير لأمته وبلاده».. إلى أن قال: «ونحن إذا قلنا ذلك فما نعني أنه كان منطوياً على نفسه مؤثراً للعزلة عن الناس والابتعاد عنهم، بل إنه على النقيض من ذلك، أمضى حياته كلها وسط المعترك السياسي والأدبي لبلاده وقضيتها، فخدمها بقلبه ولسانه وقلمه، وخدمات جعلت له شهرة واسعة في عالمي الأدب والسياسة».

سيرة حياته:

«وُلد الشيخ فؤاد الخطيب عام 1880، في قرية شحيم من أعالي جبل لبنان. والده الشيخ حسن الخطيب رئيس محكمة جبل لبنان، وهو ينتمي إلى أسرة (الخطيب) المعروفة في الجبل، وكان لها مركز ديني مرموق أيام الخلافة العثمانية. تلقى علومه الابتدائية في مدرسة (طانيوس سعد) بالشويفات، وأتم دراسته الثانوية في كلية (سوق الغرب)، ومنها انتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث اشتهر فيها شاعراً ورياضياً». «وبعد أن أتم دراسته فيها عام 1904م بدأ نشاطه مشتركاً في الجمعيات العربية السرية التي كانت تطالب الأتراك بإعطاء العرب حقهم في الحرية والاستقلال».

«ثم انتقل إلى مدينة (يافا) لتدريس اللغة العربية، وكان متابعاً في الوقت نفسه رسالته الوطنية في لبنان؛ إذ حكم عليه في مدينة (عالية) بالإعدام بأمر جمال باشا (السفاح)؛ ففر إلى مصر يتابع جهوده ونشر قصائده ومقالاته».

علاقته بكبار الشعراء:

«توطدت علاقته بكبار الشعراء العرب في القاهرة، وذلك في عام 1908م، أمثال إسماعيل صبري، أحمد شوقي، خليل مطران وحافظ إبراهيم.. ومع هذا الأخير مكث معه سنتين يقطنان منزلاً واحداً. وفي هذه الفترة طبع الجزء الأول من هذا الديوان، وأكثره قصائد قومية، وحث أمته على متابعة قضيتها الوطنية.

ثم اضطر إلى أن يسافر إلى السودان حيث عمل مدرساً للغة العربية في كلية (غوردون)، وتوطدت علاقته بكبار رجالاتها، مثل المهدي، الميرغني ويوسف الهندي. ومن طلابه السودانيين إسماعيل الأزهري رئيس وزراء السودان يومئذ، وآخرون. ومن السودان انتقل إلى الحجاز حيث اتصل بالشريف حسين بن علي، وعمل رئيساً لتحرير جريدة (القِبلة) التي كانت تصدر في مكة المكرمة، وهي الجريدة الرسمية للحجاز، ثم عُيّن وكيلاً لوزارة الخارجية في حكومة (النهضة) عام 1916/ ثم وزيراً للخارجية.. في تلك الفترة من شبابه في الحجاز نظم أروع شعره القومي والسياسي، وألّف مع الشيخ محمد سرور الصبان وعمر عرب - يرحمهما الله - مدرسة للشعر الحماسي والقومي؛ وانتشرت قصائده في سائر الأقطار العربية. ومن ذلك الحين توطدت العلاقة بينه وبين الشيخ محمد سرور الصبان من خلال صداقة متينة؛ وطبع له ديوانه على حسابه في عام 1959م، وامتد الوفاء. كما تعرف الشاعر على الطيب الساسي الذي شغل رئاسة تحرير صحيفة (أم القرى) سنوات.. ومعالي الأستاذ محمد سرور الصبان وفيّ للوطن، وظهير لأبنائه ولكثير منهم ولمن يسعى إليه معواناً رطّب الله ثراه..

ولما استولى الملك عبدالعزيز على الحجاز، ووحّد الكيان الكبير (المملكة العربية السعودية)، كان الشاعر قد انتقل إلى (شرق الأردن) مستشاراً للأمير عبدالله بن الحسين في عام 1926م، ثم استقال في عام 1939م، ورجع إلى لبنان تاركاً السياسة إلى أن استدعاه صقر الجزيرة في عام 1945م؛ إذ جعله من مستشاريه، ثم انتقل إلى كابل وزيراً مفوضاً لجلالته فسفيراً للمملكة في أفغانستان.. فمكث هناك نحو عشر سنوات، وقد عُين في كابل منذ شهر رجب عام 1367هـ سفيراً للمملكة العربية السعودية إلى أن توفاه الله فيها يوم الاثنين 15 من شهر الصوم 1376هـ.. في تلك الفترة عرف الراحة النفسية والاستقرار، وأكب على القراءة والمطالعة ودروس العلوم الطبيعية والفلسفة عامة، وعلم الفلك، كما تعمق في دراسة الآداب الأجنبية، كالأدب الإنجليزي؛ فانعكس ذلك في شعره، وجمعه في ديوان، وسجل قصائده كلها بخط يده، وشرحها بنفسه في كتاب واحد مخطوط لدى عائلته. وخلال حياته في (كابل) أتيح له أيضاً أن يصقل شعره، ويعيد تنقيحه، واهتم بالديباجة والأسلوب؛ لأنه أراد لشعره القوة والجزالة لغة وبياناً! وكما يقال عنه، إنه كان يعتبر أن المعنى هو الأصل، وأن الأسلوب أو الديباجة هما الثوب أو الوشي متمم أحدهما الآخر! وأن اللفظ إذا خلا من المعنى البليغ فهو مجرد كلمات وأوزان. ويرى بعض القراء أن قصائده التي سبق قراءتها ونشرت في دواوينه مختلفة عما سبق لهم قراءته بعد أن صقلها ونقحها».

مقدمة الجزء الأول:

تحدث الشاعر عن جزيرة العرب وطبيعتها، وعن القبائل البدوية التي عاشت فيها، واللهجات وتراكيبها، ووصفها بأنها عجعجة، مل صياح «قضاعة»، وفحفحة هذيل، أي «بحّة الصوت»، و»عنعنة» تميم، أي لفظ: الهمزة كالعين، و»طمطمانية» حمير، و»كشكشة» ربيعة، أي إبدال الشين من كاف الخطاب، نحو «أكرمتش» بدلاً من أكرمتك. أي العجة قبائل. ثم انتقل بعد ذلك إلى بعثة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ونزول القرآن الكريم الذي ألّف بين القبائل حين أسلمت.. مروراً بانهيار الدولة الرومانية الغربية في القرن الخامس؛ إذ تُعد تلك الحقبة بدء تاريخ العرب وانتشارهم بما لهم من السلطة واللغة ما يقرب من نصف إفريقيا وإسبانيا.

ويمضي الخطيب بين صفحات ديوانه، وأخذ يتحدث عن نفع اللغة العربية، وأنها أصبحت وحيدة في الاستعمال بعدما كانت مصر تكتب بالقبطية، والشام باليونانية، والعراق بالفارسية «بسبب نقع الفتن والدسائس»، أفضى ذلك إلى انقلاب لم يقف عند الهيئة الاجتماعية، بل تجاوزها إلى الحالة العقلية إلى أن «تقوضت الدولة الأموية»..

وبعد أن قامت الدولة العباسية نهض الأدب برسالته في التأليف والتعريب؛ وساد التثقيف في عصري المنصور وهارون الرشيد؛ ففي عهد الأول ازدهرت العلوم من طب وشريعة وحساب وما إليها.. أما في عهد الرشيد فقال الخطيب: تفجرت ينابيع الحكمة من الأفهام وهبط وحي البيان على البيان، ولاسيما ولم يألُ البرامكة في رفع مكانة الأدب جهداً؛ فأجزلوا لأهله العطاء والهبات «ثم كان ازدهار العلوم والمعارف في عهد المأمون مما حفل به تاريخه في ذلك الشأن طوال حياته، يُعنى بجمع الكتب في كل المسائل والفنون، وبكل السبل، ويعنى بتعريبها ونشرها في البلدان، وهكذا كانت بغداد دار المعارف بعامة».

وتطرق الشاعر الخطيب إلى الشعراء الحذّاق عبر العصور، كزهير شاعر الحوليات الذي ينشئ القصيدة في ستة أشهر، ويهذبها في تسعة أشهر. وتحدث صاحب الديوان عن الحطيئة والأخطل والأعشى، وغيرهم.

ونطوي مقدمة الجزء الأول من ديوانه لنجد الشاعر يذكر وثبة الغرب، وامتزاج الصليبيين بالعرب، ونهضة الآداب، والفضل لله ثم للغة العربية وكنوزها.. ثم يستطرد ذاكراً حريق غرناطة الذي أحرق حينها ثمانين ألف كتاب، ونهب الإسبان سفناً مشحونة كتباً، كما فعل هولاكو الذي أحرق بغداد، وألقى بكتبها في الفرات، حتى تبدل الماء إلى لون أسود.. ويطوي الجزء الأول راثياً كنوز اللغة العربية؛ فقال: «وتركنا كتب آبائنا في خزائن الغرب، ولهونا بالقشور عن اللباب». وينهي آخر سطر قائلاً: «يتكلم حكمة فتى عربي باح بما في نفسه لعلّه يهزّ عزائم قومه».

ونظم الخطيب قصائد عدة في ديوانه التحية للعثمانية، منها: إعدام قرد، آمال وآلام، أيها الترك والعرب، إلى صاحب الإقدام، والعديد من هذه القصائد المتنوعة التي كتبها في فترات وأزمان مختلفة.. ومن هذه القصائد واحدة بعنوان «إلى حسناء الشرق» ص(67)، وكان يستخدم في أبياته نوعاً من القسوة وهو يخاطبها بقوله:

فيا زهرة الشرق اسمعي قول موجعٍ

تصبّيته لكنه لم يعد صباً

ولا تسلسي منك القياد إلى الهوى

فقد حان أن تُعلي بهمّتك العُربا

إلى أن قال:

قفي وأعجبي فالشرق شرقّ وإنما

تضاءل فيه النور حتى غدا غربا

والخطيب في قصيدته لم يكن يتغزل بالحسناء كما يفعل باقي الشعراء، لكنه كان يرثي حال الشرق وما آل إليه حالهم.

وكما قلت آنفاً، فإن قصائد الشاعر جاءت متنوعة وفق المواقف التي صادفته في حياته، وإنه شعر طابعه الرثاء والشجن في بعضه. ونقف على قصيدة: «رثاء فقيد اللغة الشيخ إبراهيم اليازجي»، فينشر حزناً ص 83:

أيها الموت كيف أفجعت بالغُمض

عيوناً كانت تعاف الرقادا

توضح روعة الأبيات إذ خاطب الموت كأنه إنسان! ويسأله قائلاً:

كيف أدهيت زنداً كان

يُرى من اليراع زنادا

أيها الموت قد عقدت لساناً

طَلِقاً ما تعوّد الانعقادا

وما أروع وصفه شفة الحزن والأسى التي يُشعره حتى تسرب هذا الإحساس إلى مداد قلمه، فأصبح له صرير يئن؛ واكتسى لون السواد حداداً على الفقيد.

وينقلنا الشاعر بين صفحات ديوانه قصائد كأدب الغرام، وكلمة وداع، والتقريظ.. إلى أن نرسو على صفحة «بيان لا بدّ منه»، فيذكرنا الشاعر بعصر النهضة في فرنسا وإيطاليا. وينهي الشاعر الخطيب صفحات الجزء الأول بكلمة أفرغها في قالب خيال عن لغة العرب والصحراء العربية في الجزيرة العربية، بعنوان «من الصحراء إلى الأدباء».

قال: «فهكذا الأدب، وكذلك العرب، فلقد سبروا غور الحكمة، ومشوا إلى أعماق الفهم، فانتزعوا العقول من عقالها، وابتزوا اليقين من الريب، وإنهم لأرفع الخلق ذكراً، وإن من بيانهم لسحراً».

فالشاعر يمجد الأدباء ويمتدحهم؛ وقد أخذوا من عمق الحكمة؛ ونفضوا عن العقول ما كان بها من ظلمة، ثم يستطرد متغنياً باللغة العربية وقوافيها وسحر بيانها، ولا زال الشاعر يتحدث ويتغزل بلغته الأم فيشير إلى البيان في وصفها «ص 125»، ويعّول على المعاني المنقولة من لغة إلى أخرى، فشبهها باللؤلؤ الذي فقد بريقه، وانخلع من قوالب الحكمة، فأصبحت كما صورها «فكانت شبحاً ناحلاً، وخيالاً ماثلاً»..

فؤاد الخطيب مرتبط ارتباطاً وثيقاً بلغته الأم، ويغار عليها، فيقول: «ألا وإنه لمن البر بالأدب، والغيرة الصادقة على تراث العرب، أن ينسب المتأدب على منوال الفصحاء، ويُطبع على غرار البلغاء، وأن يعمل على إحياء البيان، وتقويم مناد اللسان».

الملاحظ في ديوان فؤاد الخطيب أنه تطرق إلى موضوعات، قلّ أن كتب فيها أو عنها بعض الشعراء؛ فنجد في إحدى قصائده هذا العنوان: «حظ الأديب»، يصف فيها حال الأديب العربي في بعض بقاع الأرض، وأخرى موئل الدسيسة، صبر الكريم، القصر البالي، أنين الناي، فهو يصف الناي وأثر حزنه في النفس، فيما يشبه النجوى، دأوها الراح الرمزية وأغراض أخرى معنوية، والبليغة التي ينبغي على الدارس الوقوف عليها؛ لما تحويه من أطياف الفصاحة.

والديوان مليء بالقصائد الرصينة الصقل للتمكين من الوقوف عليها؛ ولعلي أحاول بقدر المستطاع أن أقف ملتقطاً ما أمكن منها.

ومن أعمال البادية نقرأ في هذه القصيدة بعد الشاعر في وصف البادية والحاضرة ص 220، وطبيعتها، فينشد ساخراً من حال المظاهر الخادعة إذ يقول:

وهل نظرت إلى الأشجار باسقة

في الروض تسحب من أذيالها تيها

كالقوم، ظاهرها حالٍ، وباطنها

خالٍ، ومن سُفلها تحيا أعاليها

هذه الصورة يظهر فيها حال الناس أو البشر الذين يحيون في الحاضرة؛ يحبون مظهر الزيف الخادع البراق؛ فهم في الخارج ترى الزينة والحلية، أما دواخلهم فهي هواء لا شيء فيها.

فاهجر حواضرهم بالبغي مترعة

فما السلامة إلا في بواديها

والنفس إن تسع الدنيا فما اتسعت

للحقد، إن قليل الحقد يُعييها

واقرأ إذا شئت عند شطر البيت الأول؛ فالشاعر يقف على الطبيعة الساخرة إن صح هذا التعبير. ولا أعلم ماذا يعني بالساخرة؟ فخلق الله أعظم من أن يسخر منه، لكن حال البشر أو بعضهم يجوز أن يكونوا في تصرفاتهم ما عنى الشاعر فيقول:

هي «الطبيعة» إن جدّت وإن هزلت

فما الدعابة إلا من معانيها

كم هاجت الريح فانقضت معربدة

هوجاء تعصف ركضاً في نواحيها

وفي التنقل بين أفياء القصيدة؛ فتارة ينشد كالحادي الطروب، وأخرى في الأمل واليأس، وفضل الجهل، وفلسفة الغباوة، وعظمة البلادة، ومسرح الهزل، ثم الطبيعة الساخرة، والمسخ والتشويه.. هذه الصورة المتضاربة والمختلفة زج بها الشاعر في كل مقطع من مقاطع قصيدته ص 275.

وفي وقفة أخرى نصل إلى «الجزيرة وأبطالها الميامين»، وكان عنوان القصيدة «تحية العيد»، فقال يمدح ويهنئ مؤسس المملكة العربية السعودية وبطل وحدتها الفقيد صقر الجزيرة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود رطب الله ثراه؛ وذلك في يوم جلوسه على العرش عام 1362هـ، فيقول:

اليوم يجلس فوق العرش صاحبه

وللجزيرة تهليل وتحميد

تزاحمت حوله الأيام من حسد

وكل يومٍ تمنى أنه العيد

ليث الجزيرة إن يهتف بها انتفضت

لديه فاندفعت منها الصناديد

ومن أبيات القصيدة مدح الملك عبدالعزيز رحمه الله. وتتوالى القصائد حول أدوار البطولة التي سجلت أيام الملك عبدالعزيز، ومآثره الجليلة في توحيد الجزيرة العربية، فيشدو مفاخراً بذلك حين يقول ص 281:

إن «الجزيرة» عند العُرب واحدة

وليس في الحاجز المضروب تقييد

لم ترض حدًّا فإن تُلمِ به اقتحمت

وهل يحد شعور الشعب تحديد

لها الزعيم الذي التوحيد سنتُه

هيهات يُفصم شمل فيه توحيد

وأقف عند قصيدة «المورد العذب» ص 300! إذ يشدو الشاعر عن فصول الماء إلى مدينة جدة، ويا لها من فرحة «لأول مرة في تاريخ حياتها من ينابيع وادي فاطمة، وكان أهل جدة قد جمعوا مالاً لهذه الغاية، غير أن الملك عبدالعزيز تولى جلب الماء على نفقة الدولة، وكان يومها المال قليلاً في خزائن الدولة. وقد أقيم لهذه المناسبة احتفال كبير في مدينة جدة بتاريخ 5 محرم 1367هـ». وكانت مناسبة سعيدة؛ إذ قال الشاعر:

سل الدار والأجيال هل طلع الفجرُ

على مثل هذا اليوم أو حدَّث الذَّكر

فقد سجّل التاريخ للجود آية تنافس في تخليدها الشعرُ والنثر، إلى أن قال:

و»جدة» ثغر «للحجاز» ولم يكن

ليبتسم إلاَّ بعد نائلِك الثغر

هذه الرحلة التي بدأناها مع الشاعر الجاد بتجربته على مراحل عديدة داخل قصائده، وهو الذي اختار عالمه ومراحل مر بها منذ تولي جلالة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - الحكم إلى حين وفاته، وقد كانت أبيات شعرية في غاية الجدية، كتبها بوعي شاعر جاد، وبالكلمة أو المفردة بعيداً عما ينتاب الشعر هذه الأيام من حشوٍ فارغ.

من هذا الطريق ينطلق الشاعر إلى مراحل ومحطات كثيرة.

مقالات أخرى للكاتب