08-10-2014

إسلام الغرب.. ومسلمو الشرق

عندما نمتّع النفس والروح ببركة صيام رمضان وقيامه، تنشغل ألبابنا بالتفكر في السموّ الأخلاقي الذي يجب أن يتحلّى به الصائم لكي يحظى بالقبول من رب العالمين. هذا ما يعلمنا إيّاه الحديث الشريف..

.. (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في طعامه وشرابه). هذا الحديث فيه تأديب وتربية للمسلم، فالذي لا يدع الباطل قولاً وفعلاً في رمضان، لا شك أنه يمارسه طوال العام، أي طوال حياته؛ والذي يدعه بإيمان وإخلاص يسهل عليه أن يتمكّن من ذلك في غير رمضان.. ومعلوم أن قول الزور والعمل به يشمل في ما معناه كلّ ما هو خارج عن أدب التعامل وحسن الخلق بين الناس، مثل الكذب والغيبة وإخلاف الوعد وخيانة الأمانة والادعاء المخالف للحقيقة والإيذاء بالقول أو الفعل... إلخ.

ولو تأمل المسلم العادي في ما يقرأ أو يسمع من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، لوجد فيها الكثير الواضح من التعاليم والتوجيهات التربوية التي تحض على حسن المعاملة والانضباط الاجتماعي والإحساس المشترك بالمسؤولية. فالتأكيد على ترك الصائم لقول الزور والعمل به لا يعني أن ذلك لازم للصوم فقط، بل لإظهار قبح هذه الممارسة التي قد تبطل الصوم.. غير أن الواقع الذي نراه في مجتمعنا الإسلامي لا يطابق المراد من تلك التوجيهات التربوية. إن الحديث عن ضعف تطبيقها في البلاد المسلمة يؤلم حين نرى أن ما علّمنا إيّاه الإسلام يُطبّق الكثير منه في بلاد متحضّرة غير مسلمة.. ونومئ فقط إلى بعض نماذج من ذلك:

- الالتزام بالنظام والقانون مع المساواة والجدّيّة في التطبيق.

- الالتزام بالمواعيد والوعود.

- حفظ الحقوق وحفظ الاعتبار للغير.

- احترام تنظيمات المرور وحق المشاة.

- احترام الوقت واستثماره.

- الالتزام بأمانة العمل إنتاجاً وإتقاناً.

- المصداقية والشفافية في التقارير والبيانات.

- اللباقة واللطافة في الاستقبال والتعامل.

- حب المعرفة واستقلال التفكير منذ الصغر.

ربما توحى هذه الخصال بأن المجتمع الغربي المتحضر مجتمع مثالي - وهذا بالطبع ليس المقصود.. فالالتزام بتلك الخصال سمة غالبة، لكنها لا توجد في كل إنسان.. بل إن في المجتمعات الغربية من المثالب الأخلاقية وغير الأخلاقية ما لا يمكن تصوره عند مسلم مؤمن - مثل شرب المسكرات والإباحية الجنسية والمادّية المفرطة... إلخ.. إلا أن أثر ذلك على مستوى التعامل المتحضر مع الآخرين والتعامل الموضوعي والعقلاني مع الأشياء المادية لا يظهر.. وهذا كان مبعثاً للانبهار من كثير ممّن ساحوا في بلاد الغرب من مفكري الشرق.. فهذا مثلاً (طه حسين) يذكر في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) أن (السبيل إلى الأخذ بأسباب الحضارة الأوربية هي أن نسير سيرتهم ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً وشركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومرّها... إلخ).. ولم يغب عن باله أن يوضح للقارئ: ( فإذا دعونا إلى الاتصال بالحياة الأوربية ومجاراة الأوربيين في سيرتهم التي انتهت بهم إلى الرقيّ والتفوق، فنحن لا ندعو إلى آثامهم وسيئاتهم، إنما ندعو إلى خير ما عندهم).. لكن الأهم من ذلك في اعتقادي تلك العبارة التي أطلقها الشيخ (محمد عبده) بعد عودته من باريس عام 1884، وهي: (وجدت في الغرب إسلاماً بلا مسلمين، وعندنا في الشرق مسلمون بلا إسلام).. وكان يقصد (وهذا واضح من كتابه عن العلم والمدنية في الإسلام) ما وصل إليه الغرب آنذاك من علوم وحضارة وحرية فكر ورأي واحترام للغير ونظم تعليمية؛ وهي أمور كانت موجودة عندما كانت حضارة الإسلام في أوج مجدها، حيث تآخى الدين مع العلم والمنهج العقلاني.. أما الشخصية الدينية الأخرى التي تناولت الموضوع نفسه من زاوية أخرى فهو الشيخ عايض القرني، الذي كتب في (الشرق الأوسط - صفر 1429) بعد عودته من باريس؛ (أجد كثيراً من الأحاديث النبوية تطبق هنا: احترام متبادل، عبارات راقية، أساليب حضارية في التعامل؛ بينما نجد أبناء يعرب إذا غضبوا لعنوا وشتموا وأقذعوا وأفحشوا.. ثم يورد أمثلة من القرآن والسنة عن حسن التعامل؛ ثم يقول: عندنا شريعة ربانية مباركة، ولكن التطبيق ضعيف. ويختتم مقالته بعبارة عالم هندي، هي: المرعى أخضر ولكن العنز مريضة.. ما يستدعي الانتباه في هذه المقتطفات أنها صدرت من عالمين بارزين من علماء الدين بفاصل زمنيّ يبلغ القرن ونصف القرن.. هذا يعني أن علماء الدين يدركون أن كثيراً من الخصال الحميدة في الحضارة الغربية قد سبق الإسلامإلى تشريعها والحض عليها.. فأين كان هؤلاء العلماء من ذلك؟ هل اكتفوا بالتركيز على الحلال والحرام في الأحكام الفقهية، وأدخلوا فيها أموراً دنيوية وجزئيات فرعية من طبيعتها عدم الثبات والاستمرار على حال واحدة طيلة أربعة عشر قرناً، فأخرجوها من سياقها الزماني والمكاني، وغفلوا عن تربية المجتمع على الآداب وأساليب التعامل الحضارية التي شرعها الإسلام أيضاً قبل أربعة عشر قرناً، والتي من طبيعتها الإنسانية أنها لا تتبدل في الجوهر؟ عندما يأتي الحديث في وسائل الإعلام أو في الندوات والمؤتمرات على أمور مثل حقوق المرأة والطفل أو حقوق الإنسان أو حتى حقوق الحيوان أو الاكتشافات العلمية أو معاملة الآخرين بخلق حسن أو ما شابه ذلك من المواضيع، نبادر إلى التأكيد بالأدلة على أن دين الإسلام سبق العالم المتحضر في هذه الأمور.. وهذا صحيح، ولكن ننسى أننا في الواقع لم نحافظ على هذا السبق، فلم نطوّر - بل لم نحافظ على - المستوى الحضاري الذي وصلنا إليه في عصور الازدهار الفكري والعلمي، وإنما تراجعنا بفعل ظروف تاريخية معروفه لعبت العصبيات الشعوبية والطائفية والمذهبية واضمحلال هيبة النظام دوراً بارزاً في خلقها منذ بداية الثلث الثاني من العصر العباسي.. كانت ظروفاً أحرقت فيها كتب العلماء والمفكرين، واتّهم أصحابها بالزندقة، وخلا الجوّ لأصحاب الجهل والخرافات وللتشرذم الاجتماعي، ودخل المجتمع الإسلامي برمّته في نفق تاريخي مظلم وصفه (أبو الحسن الندوي) بعصر الانحطاط، ووصفه (محمد عبده) بعصر الجمود. إن الدين الإسلامي لم يكن دين عقيدة وفقه فحسب، بل كان أيضاً دين حضارة معظّماً لشأن العلم والعقل وتهذيب الطباع وأساليب التعامل بين الناس.. وكل هذه عناصر ضرورية لصنع الحضارة.. والحضارة لا يصنعها أفراد متفرقون، بل هي عمل جماعي منسّق ومتواصل لا يستقيم أداؤه ويحقق أهدافه بدون التعامل الحسن والاحترام المتبادل بين أعضاء المجتمع والانضواء تحت قبة نظام اجتماعي يتكوّن من قِيَم وأنظمة يطبقها ويحترمها الجميع، ويثق كل فرد منهم بأن الآخرين يطبقونها ويحترمونها لأنهم رُبُّوا وعلّموا على ذلك. هذه النظم والقيم - بما فيها احترام آراء الآخرين وحقوقهم - هي مع العلم والمنهج العقلاني الآليات التي يدير المجتمع - في ضوئها - شؤون دنياه (أنتم أعلم بشؤون دنياكم).

إن التنويه بالخصال الحميدة في الحضارة الغربية - حتى وإن كان لا ينحصر في المجال التقني - بعيدٌ عن مفهوم التغريب، لأنه يُعنى بخصال ذات جذور في دين الإسلام أعطشها المسلمون، فنبتت في ديار الغرب.. لذلك صار في الغرب (إسلام بلا مسلمين).. والمجتمعات الغربية لا يسود فيها طابع روحاني، بل هي مجتمعات ماديه تفتقر إلى الوازع الديني، فلذا استغل الغربيون حضارتهم في إشباع مصالحهم المادية بآثامها وشرورها.. أما المجتمع الإسلامي ذو الروحانية المتجذرة فليس على هذه الشاكلة؛ فلا خوف عليه من انحلال أخلاقي إذا هو جمع بين الدين والأخذ بأسباب الحضارة الغربية - أي بالعلم والمنهج العقلاني والفكر الناقد، وعندئذ ستكون (رقة الطباع) و(ترك قول الزور) واحترام الأنظمة والقوانين المنظمة للحياة العامة جزءاً لا يتجزأ من المُنجز الحضاري.

مقالات أخرى للكاتب