10-10-2014

محاكمة عباس بن فرناس

صحبني في إجازتي في عيد الأضحى كتابان في التراجم، أحدهما ألّفه أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي العافية بن القاضي المكناسي، وهو من أهل مكناس بالمغرب الشقيق، ونعت كتابهُ (بدرّة الحجال في غرة أسماء الرجال), أما الصاحب الآخر في هذه الإجازة فهو كتاب لمحمد بن عبد الله عنان وسمّاه (تراجم إسلامية شرقية وأندلسية), ولعلّني أتوقف قليلاً عند الأستاذ محمد عنان الذي توفي رحمه الله في نهاية القرن الماضي, وما زال بعضاً من معاصريه على قيد الحياة, وهو محاميٌ مصريٌ يتقن الأسبانية والفرنسية, قدم إلى المغرب الشقيق وعاش بها نحو اثني عشر عاماً, قضى جلها متنقلاً بين مكتباتها, ويعتبر بحق أفضل من كتب عن تاريخ الأندلس من مصادره ومخطوطاته العربية والأسبانية, وقد التقيت بعددٍ من معاصريه الذين شهدوا له بالتميز في هذا الميدان, ونيله راية السّبق بلا مماثل, بينما سمعت من معاصريه المشاركين له في الميدان ذاته من يحاول أن يقلل من شأنه, وهذه في الأغلب حال أصحاب الصنعة الواحدة المعاصرين لبعضهم, فلا تخلو النفوس من دوافع المنافسة, وبواعث الغيرة عند المجالسة, رحم الله الأموات والأحياء على حدٍ سواء ورحمنا معهم.

نعود ونكتب عن عباس بن فرناس, فاسمه أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس وهو من جنوب الأندلس في ناحيةٍ تسمّى تاكرتا أو رندة. ولهذا فهو يلقب بالتاكرتي وأحياناً بالرندي, وقد عاش في الفترة من 190 حتى 260 هجرياً وأصوله تعود إلى البربر.

وعباس بن فرناس مجموعة من المواهب في شخصٍ واحد, فهو شاعرٌ, وناثرٌ, وفيلسوفٌ, وفلكيٌ, ومخترعٌ, ومهندس ري, ورسامٌ, وطبيبٌ, وموسيقيٌ ويكفيه اختراعه لصناعة الزجاج من الرمل. وقد يكون ذلك صعب الفهم في زماننا هذا لكنها الحقيقة التي عاشها ذلك الرجل.

وقد عاش عباس في عهد الحكم بن هشام ثم ابنه عبد الرحمن بن الحكم، ثم حفيده محمد بن عبد الرحمن.

ومع أنه عاصر شعراء وأدباء أفذاذاً مثل مؤمن بن سعيد, وأبي عمر بن عبد ربه صاحب العقد الفريد, إلا أنه استطاع مجاراتهما, وكان الأمير محمد كثيراً ما يستدعيه لسماع ألحانه وموسيقاه وشعره.

لقد سببت له مخترعاته مشاكل كثيرة, فقد اتهم بالزندقة والكفر, وأنه يستخدم الشياطين ويتعامل معهم, ولهذا فقد كانت له قوى وقدرات شيطانية خارقة, وعليه فهو رجلٌ مارقٌ يستحق المحاكمة, وقد كان له خصوم من الفقهاء, ومنافسون من أقرانه في العلم, وجلسائه عند السلطان, وكلنا يعلم ما يسودُ في ميادين السلاطين من مماحكات ومنافسات أدت في بعض الأوقات إلى ضياع الراعي والرعية والخروج عن السيرة المرعية.

لقد قُدّم هذا الرجل أمام قاضي قرطبة سليمان بن أسود الغافقي وعُقدت المحكمة بالمسجد الجامع, وهرع الناس والشهود، واجتمع حشدٌ من العامة لحضور محاكمة رجلٍ مشهورٍ قدّم لمجتمعه الكثير من المخترعات والإبداعات, وقد قدّم أحد الشهود شهادته قائلاً: إنه يشهد بالله العظيم أنه قد سمع ابن فرناس يقول: (مفاعيلٌ مفاعيلُ) أما الآخر فقد شهد أنه رأى الدم يفور من قناة داره في إحدى الليالي, لكن القاضي كان مستنيراً, فلم يحفل بمثل هذه الشهادات, فالقاضي يعلم أنّ (مفاعيلٌ مفاعيلُ) جزء من عروض الخليل بن أحمد, بينما يراه الشاهد محادثة مع الشياطين والحكم على الشيء جزءٌ من تصوره, ولهذا فلو كان القاضي جاهلاً بعلم العروض لكانت مصيبة عباس بن فرناس كبيرة, ولأمال سوء الفهم حكم القاضي عن الحق, أما الشاهد الثاني فربما قد رأى أثراً من آثار تجارب عباس بن فرناس, وقد كان لون تلك المادة الكيميائية أحمر.

أما محاكاته للطيران بوضع الريش على ذراعيه وجسمه ونجاحه في القفز من إحدى الهضاب والطيران لمدة قصيرة قد جعلت بعض الشهود يشهدون أنّ الشياطين قد رفعته إلى الأعلى, ثم حطت به إلى الأرض بعد أن تحدث معها, ومع هذا فلم يعبه القاضي بهذا القول, وبرأ هذا الرجل العظيم من التهم الموجهةِ إليه.

وبعد أن عجز أعداؤه من اتهامه بالتعامل مع الشياطين لجأوا إلى اتهامه بالزندقة, ولم ير في قولهم ما يدعو إلى محاكمته, وإنما عقد مجلساً للمناظرة وانتهى الأمر بضحد أقوال المتربصين به, ولذا فلم يسمع الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم لقولهم، وعفا عنه واستمر في حياته مكرماً معززاً حتى توفاه الله.

إنّ في هذه المحاكمة المتعلقة بعباس بن فرناس عبرٌ كثيرةٌ, لعل أهمها أنّ المنافسة غير الرشيدة قد تطيح بالعلماء والفقهاء والمصلحين, وثانيها أنّ العلوم البحتة في ذلك الوقت كانت في بدايتها, وكانت ردة فعل العامة مناهضةً لها, وثالثها أنّ الحكم جزءٌ من تصوره, ولو لم يكن القاضي في ذلك الوقت عالماً مستنيراً لوقع عباس بن فرناس ضحية منافسيه, ولخسر العالم رجلاً حاول الطيران, وصنع الزجاج من الرمل, وأبدع في الري, وأضاف للعالم إضافات علمية كبيرة.

مقالات أخرى للكاتب