17-10-2014

عندما تكون لغة الصمت.. حواراً في أعماق الذات

البلاغة إبلاغ ناطق.. والصمت علامة توازي النطق بها.. الصمت حضورٌ لذات الإنسان العميقة في لحظة انسجام وتوافق تام بين الجسم والعقل والروح.. وهذا لا يتأتى للإنسان بسهولة إلا عندما يكون على قدرٍ كبير من تأملٍ وإنصات لهمسِ وجمال صمت الكون في لحظات التحرر من قيود الحياة.. والارتماء في أحضان الهدوء والسكينة.. والخلوة مع الذات لسبر عمق عالمها الداخلي والبحث في زوايا جوهرها.

وما بين الوصل والفصل تتبدى حقائق الأشياء جلية.. وتذوب طبقات الزيف المتراكمة فوق مشاعر الذات الإنسانية.. وما بين تلاشي صدأ هموم وصفاء نفسٍ متحررة من أسر الحياة وانفراد ذات بذات.. تتجلى حقيقة مفردات الحياة بأبعادها المختلفة بعد أن اغتصبتها أمواج من ضجة وزحمة روتين لا ينفك من فرض قيود الحصار على ذات الإنسان رغم تطلعها إلى لحظات تحرر وإطلاق العنان لها لتهيم سابحة في فضاء يُصبح التنفس فيه امتداداً لإيقاع جمال الكون والوجود الإنساني.

عندما يشير أبو الفلسفة والحكمة الفيلسوف اليوناني سقراط بأن الصمت مقود الحكمة فإنه يُذكرنا بأن البحث عن جوهر الذات ومراجعتها والارتقاء بها لا يمكن أن تحققه النفس البشرية إلا عن طريق خلوة ذاتية مع الذات المثقلة بالهموم.. المتعبة من الركض في دهاليز الحياة الشائكة.. هنا تتجلى جماليات لغة الصمت في حوارها مع الذات.. وبفعل لغة الصمت تنطلق الجوارح في فضاء التأمل وتدخل في عالم من الجمال والسكينة.. عالم بلا رموز بلا كلمات أو فواصل.. عالم لاكتشاف ما إذا كان ثمة مجال لم تُصبْه بعدُ عدوى المعلوم.

الصمت المنتهي بالتأمل يمنح النفس البشرية شعوراً بالغبطة والفرح العجيب.. والتأمل ليس وسيلة إلى غاية إنه الوسيلة والغاية معاً نحو عتق الذات الإنسانية وتحريرها من قيود الحياة.. لتنطلق بحرية ضمن نطاق زمني من حياتها اليومية وذلك في تجوال بعيد عن عالم يموج بالتبعية والصراع والتناقضات وازدواجية المعايير.. والنزاعات السلطوية والحروب المدمرة وتمرد الإنسان على الإنسان والطبيعة والبيئة التي يعيش داخل نطاقها أو ضمن حدودها.

الصمت التأملي هو صوت إيجابي حيوي ينطلق من أعماق الذات المتعبة المتوترة.. والمتأزمة من واقع الحياة بمختلف ظروفها والروتين الذي لا ينكسر فيغذي العقل والتفكير.. وهو حالة انعكاسية لبناء ذات الإنسان على القيم والأخلاقيات وجماليات الحياة من بعد ضجيج أشبه ما يكون بمعركة الإنسان مع ذاته.. وإن جاز التعبير يمكن القول بأن وعي الصمت هو حضور وعيه المتنكر وتجليه في الذات الإنسانية.

حين يصمت الإنسان متأملاً فإنه يصغي للكون.. ويتحول صمته إلى رسالة عميقة لمشاعر لا يمكن التعبير عنها بأبجديات الحروف.. وحين يعيش الإنسان تجربة تتضاءل معها لغة الكلام يصبح الصمت هو الممكن الإنساني لنفث مشاعر يصعب ترجمتها بالحروف.

لغة الصمت لغة عميقة.. هي لغة التأمل لاستجلاء الحكمة.. ترى كم منا يتقن هذه اللغة الجميلة.

zakia-hj1@hotmail.com

Twitter @2zakia

مقالات أخرى للكاتب