19-10-2014

حكّمتُه لو عَدَلَ

العنوان عجز بيت من أحد الموشحات الأندلسية غنته إحدى الجواري في حضرة والي الأندلس آنذاك, ومنه:

أعطيته ما سألا

حكمته لو عَدَلَا

وهبته روحي وما

أدري بها ما فعلا

قلبي له في شغل

ما ملّ ذاك الشُغلا

المهم والشاهد والعجيب أن ذلك الزمان كان حفيا بمعايير الانتقاء حتى في الشأن الترفيهي؛ فكانت الجواري تُنتقى قبل عرض بضاعتها أمام الوالي, حتى إن الناس كانوا يتداولون معايير الاستقطاب بشهية ونكهة؛ وأصبحت عمليات الفرز والتحليل تتشابك في كل الشئون إلى ما من شأنه التسلية, وقضاء الأوقات, وما كان امتداده داخل مجموعات صغيرة؛ وتحولت المعايير آنذاك إلى أداة فاعلة مطورة للمنتج من المنظور الاجتماعي؛ يعتمد عليها في الكشف عن اتساق الواقع مع المطلوب؛ وإعادة تقييم ذهن الإنسان؛ وتخليصه من الأوامر المحنطة داخل الجدران, وكانت بالفعل ضابطة للنظام العام، والقضية كما تبدو لي؛ وأحسبها تبدو لغيري أيضا لا تعدو إلا أن تكون قدرة على مغالبة التركيب النفسي, والذهني والعاطفي, وفهم قضية الاختلاف في القدرات؛ وإن كانت مؤلمة لمن هم دون المعيارية؛ ومن تفصلهم فوارق الحكمة والاحتكام إلى المصالح العامة وليست الخاصة وإن تبدّلت المواقع.

واليوم وفي الأجواء الجادة (وليست أجواء المغنيات في بلاط قرطبة)؛ وفي كثير من المعامل التي تتعلق بمستقبل الأمم, ومصائر العقول, أصبحت المعايير هلامية الدلالة؛ ومطية سهلة الانقياد؛ تمتهن على قارعة الطريق؛ لتكون سلاحا يركبه من لا يحسن الحكم, ولا يملك الحكمة؛ وقد لا يكون قد دخل إلى مضمار الصناعة قط؛ حتى ينصّب نفسه حكما على المتسابقين؛ أو يتصدّر

المؤثرين؛ وهو من المستأثرين؟!

ومن هنا تمخضت جنايات عديدة لا تجتمع في غمد واحد؛ لينتقى ويصطفى من يستجيب للغايات والتطلعات الشخصية؛ ليعلن من خلالهم فكر المؤسسات؛ وتحدد منطلقات العمل فيها، واستبعدت النماذج المضيئة؛ في ظل غياب سند معياري مثالي.

نعم هناك رؤى منزوعة الدسم؛ وهناك تقديم للتوافه؛ وجهاد في غير عدو؛ ومؤشرات بلا إشارات؟! ومقاييس أسنت وغمرتها الطحالب؛ وأغلفة لامعة لبضاعة كاسدة؛ تعتصر دون ماء, وإذ ا ما تصدّرت النماذج الباهتة ؛واحتفل بالرديء من العمل؛ فالمطلع أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن يجزم بأن ذلك هو المنتج المتاح في ذلك المحيط؛ وأن أولئك هم صفوة العقول والأفهام من أصحاب تلك الصناعة في ذلك المحيط؛ فتنضب الذائقة؛ وتتقاصر الآمال؛ وتخبو الطموحات, ويصبح الإحساس بالموجودات متعلقا بدرجة الاقتناع فقط, ونحن نعلم أن الاقتناع يُستوفى إذا كان المنتج شاملا محاطا بالجدارة والجودة والواقعية من خلال جرعات حلزونية متتابعة تهيئ للمستقبل والحياة عامة, فلسنا في مدينة أفلاطون؛ كما أن الجودة المطلوبة في جهاز تختلف عنها في آخر؛ بمعنى أنها قد تزيد عند الحاجة للاطمئنان للوصول وصولاً موضوعياً ليصبح المطلع مشتركاً مع مرجعية الانتقاء؛ وليس في تأسيس محتوياته؛ فكما يقول العامة (الشمس ما يغطيها منخل).

أما النماذج الباهتة؛ وإن حشدت لها الحشود؛ وقدّمت دون غيرها؛ فهي حتما تمعن في التلاشي؛ وتتضاءل محتوياتها, بغلبة ثغرات الانحراف؛ وتناقض الالتصاق بالواقع فهي كالزبد تذهب جفاء؛ فكيف نستورد بذور الأزهار والأراضي قاحلة؛ ولماذا ننظم اللؤلؤ والغيد في محيطنا لا تعرف كنهه ولا تملك ثمنه؛ وكيف نشتري الآيسكريم لأطفال يشتاقون لرغيف الخبز؛ وهل نستطيع أن نرسم حدائق ذات بهجة ونحن في مطابخ فوق السطوح؛ ثم أنعشق الحياة ونحن في خنادق جميلة ولكنها تحت الأرض؟!!

عفوا أيها القارئ لعلك ترقب البسط في التوقع ا لثاني للمطلع على النماذج الباهتة؛ ولكنه لا يعدو إلا أن تُبنى القواعد من جديد لتكون حاملاً أساسيا للأهداف المطلوبة؛ وتبدأ قصة جديدة للبحث عن الصانع والصناعة.

ورجعنا إلى سلمى بغير متاع؛ مع الاعتذار لشاعر الجاهلية «المسيّب بن علس».

مقالات أخرى للكاتب