22-10-2014

سهولة الانهيار الاجتماعي - اليمن كنموذج

شخصيا أعتبر اليمن أهم دول الجوار واليمنيين أهم الجيران وأقربهم إلينا في الطباع والعادات والتقاليد، علاوة على أن اليمن هو العمق اللغوي والتاريخي لكافة المتحدثين باللغة العربية، مثلما أن السعودية هي العمق الديني لكل المسلمين. لتدعيم هذا الزعم عن أهمية اليمن أستدل بمشاهدات تتكرر بين العرب في بلاد الغربة خارج الأوطان. عندما يلتقي بالصدفة أو في مناسبات دينية، لنقل عشرون عربيا مغتربا من أبناء عشرين دولة إقليمية عربية، سوف يلاحظ المدقق ظاهرة تتكرر باستمرار. المصري

وأبناء الشام الكبرى سوف يحاولون الجلوس متجاورين، اليمني و أبناء مجلس التعاون العربي سوف يحاولون التجمع إلى بعض، والعراقي والسوداني والليبي قد يتوزعون بين المجموعتين الأولى والثانية، أما أبناء المغرب العربي من شرق تونس إلى غرب المغرب فسوف نعثر عليهم متجمعين في تكتل واحد. لا أعتقد أن عربيا من الذين اختبروا الاغتراب لمدة طويلة ينكر حدوث هذه الظاهرة الاجتماعية، سواء كان في واشنطن أوباريس، برلين أو لندن، أو في طوكيو أو بكين.

لهذه الظاهرة، ولنسمها ظاهرة وقوع الطيور البشرية على أشباهها، دلالات وأسباب اجتماعية موغلة في قدم، والتعرف عليها سهل.

أعود إلى موضوع العنوان، اليمن كنموذج ودلالات ما حدث فيه من انهيار للبنيات الاجتماعية الأساسية بسرعة مذهلة تستعصي على الفهم. انهار الترابط اليمني أمام عصابات لا يتعدى رقمها السكاني ثلاثة في المائة من مجمل الطائفة الزيدية، التي بدورها (حتى لو افترضنا جدلا ولاءها الكامل للحوثية وهو ليس كذلك) لا تزيد نسبتها السكانية عن ثلاثين في المائة من مجمل اليمنيين.

لا يهمني هنا على الإطلاق كل الأدوار التي تجير على حسابات إيران أو مجلس التعاون أو أمريكا، حتى لو تركزت النقاشات وضرب الأخماس بالأسداس على هذه الأدوار فقط. تعليل الانهيار السريع لدولة عريقة مثل اليمن بالمؤثرات الخارجية يعني التهرب من مواجهة الواقع ومن تعرية الأسباب الحقيقية، لأن هذه الأسباب متوفرة داخل كل البنيات الاجتماعية العربية ولكن لا يراد الاعتراف بها. انهار الترابط الاجتماعي اليمني بهذه البساطة لأن النخب القيادية بكاملها، السياسية والدينية والعسكرية والقبائلية والثقافية كانت فاسدة و غير وطنية. النخب السياسية سرقت الأموال واختفت بها، والقيادات العسكرية قبضت الثمن و تفرقت، والقيادات الدينية تبخرت بكامل ممتلكاتها وملكاتها النقدية والوعظية والتحريضية، والقبائلية التي كنا نعتقدها مسلحة حتى الأسنان وتستعصي على التطويع تقزمت وانكمشت، أما المثقفون فهم من الأساس لا وزن لهم في المجتمعات العربية، ولاسيما حين يكون السكوت من ذهب. هكذا لم يبق على الساحة لمواجهة الطوفان سوى الإرهاب القاعدي الذي يشبه الحوثية تماما في فرض أجندته السياسية والمذهبية بالقوة والتطويع.

هذه الأوضاع الفاسدة تسلطت على اليمن منذ عشرات السنين وأسست لبؤس معيشي شامل، بحيث أصبح الهم الأكبر لليمني هو تأمين لقمة العيش وليس الدفاع عن الوطن. عندما حانت اللحظة الحاسمة للدفاع عن اليمن والمحافظة على ترابطه الوطني، لم يجد اليمني الجائع المشغول بلقمة يومه فصيلاً واحداً من النخب القيادية على ساحة المواجهة. لم يبق سوى إرهابيين في مواجهة بعضهما وهما كافيان لتمزيق اليمن وتصدير الفوضى إلى الجوار. تلك القلة العددية من الحراك الحوثي المؤدلج كانت تعرف نقاط الضعف في المجتمع اليمني واستطاعت ببعض الانضباط الحركي والدعم الإيراني أن تستولي على كل الحواضر والقصبات في اليمن، و أفرغت مخازن السلاح و البنوك و القصور والمؤسسات خلال أسبوع واحد.

منذ عقود كانت الثمار جاهزة للقطاف لدرجة أن هز الشجرة أسقطها على الأرض، فطارت الغربان المعششة فيها إلى كل الجهات الأربع. العبرة من سرعة الانهيار اليمني، رغم أنها تبدوكما لو كانت من الخيال الافتراضي، هي أن النموذج اليمني قابل للتكرار في كل دولة عربية تدار بنفس العقليات والمفاهيم التراثية. الاستقرار الحضاري وتحصين الأوطان يتطلبان العمل بشروط الحضارة العلمية الحديثة، وما عدا ذلك لا يكفي.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب