01-11-2014

رسالة لنا من عموم الهند ومنا إلى عموم الهند

إن الهند الوطن والإنسان والحضارة التي عمرها في حدود الخمسة آلاف عام، يجب أن يكتسب العالم منها الكثير، فالإنسان الهندي البسيط في الغالب في لباسه وسكنه ومعيشته وحتى مواصلاته وصبره الدؤوب على ظروفه، فلا أحد ينسى المجاعات التي عاشتها الهند في عقود مضت من القرن الماضي فلم تنهر الدولة أو يتفتت الوطن أو تعم الفوضى..

..والهند من فجر تاريخها لم تكن مقفلة أو عدائية مع غيرها فهي مفتوحة وآمنة للجميع، فالزرادشتية - الديانة الأصلية للفرس قديماً - لم يجدوا ملاذاً آمناً بالبقية الباقية من دينهم سوى في الهند، والهند لم نقرأ في التاريخ أنها جيشت الجيوش لغزو الآخرين لفرض عقيدتها الدينية عليهم أو طمعاً في ثرواتهم أو لسوق فتياتهم وفتيانهم لأسواق النخاسة، فالهندي في الغالب مسالم وطيب بطبعه حتى مع أشرس الحيوانات أو أحقرها، والهندي في الغالب بسيط وغير متكلف في جميع شؤونه وحتى أغلب عباداته الدينية، فالمعبد الهندوسي بسيط ومختصر من الخارج والداخل وكذلك المساجد والكنائس الشعبية، ولكن يبدو أنه أتت حديثاً أموال وأفكار من الخارج فأوجدت منافسات فظهرت أبراج كنائس عالية ومنارات مساجد شاهقة. والهند من الناحية السياسية آمنة من التسلط السياسي والانقلابات العسكرية، وأيضاً فالهنود مواطنون غير متعصبين لحضارتهم، حيث يأخذون من الآخرين ما يعتقدون أنه مناسب لهم، فلا مانع أن تكون اللغة الإنجليزية اللغة الرسمية للدولة رغم وجود لغات ذات عمق تاريخي هندي، وأيضاً العلمانية، رغم أن الديانة الهندوسية هي الغالبة. والهنود بسطاء حتى في تحيتهم لبعضهم تجدهم يكتفون بضم اليدين أمام الوجه مع إيماءة بسيطة ومعبرة بالرأس، وتنعكس بساطة الشعب الهندي على إنتاجهم الفني الذي أصبح شبه عالمي، فإنتاجهم السينمائي انتشر في أرجاء المعمورة وأفلامهم في الغالب ملتزمة فلا مجون ولا ابتذال حتى أن أحد فنانيهم (راجي كومار) زار المملكة قبل عقود من القرن الماضي، كان يفتخر أن مجرد القبلة ممنوعة في الفيلم الهندي آنذاك.

(المهاتما غاندي) باني الهند الحديثة حينما تراه تحتقره بجسمه الضئيل ولباسه الرث والمختصر فلا فخامة ولا أبهة ولا هيبة وبالتالي لا شيء يدل على أن الذي أمامك زعيم أمة ولكن تكمن قوته في ضعفه وعظمته في بساطته، وغاندي من الناحية الدينية علماني لكن ذلك على المستوى الرسمي، لكنه متدين على الصعيد الشخصي فهو يقول (لولا ممارستي لطقوسي الدينية بانتظام لأصبحت مجنوناً منذ زمن طويل) وهناك أطواد سياسية شامخة فجواهر لال نهرو الزعيم الثاني في الهند الحديثة كان من مؤسسي مؤتمر عدم الانحياز وشارك في وضع مبادئ مؤتمر باندونغ العالمي، ويذكر أنه أيضاً ساهم في منع كارثة حرب عالمية ثالثة.

وهناك أمور في الهند تثير العجب والإعجاب معاً عندما يقوم أبناء طائفة دينية بعمل عدائي مستفز ضد الدولة أو المواطنين كتفجير القطارات وخطف الطائرات وقتل الناس عشوائياً فلا يجرد أبناء تلك الطائفة من مناصبهم مهما كانت حساسة، وحينما قام أحد حراس السيدة (غاندي) باغتيالها وقام غضب شعبي عارم ضد طائفته المحرضة (السيخ) لم يمنع ذلك بعد عقود وجيزة من أن يتولى أحد أبناء طائفته رئاسة الوزراء عبر صناديق الاقتراع.

وكذلك في أوج الحرب الباردة والساخنة مع باكستان المسلمة أن يتولى رئاسة جمهورية الهند شيخ مسلم (ذاكر حسين)، وإن كان منصباً شرفياً، وكذلك قائد سلاح الجو المسلم وأيضاً وزير الدفاع (فرنانديز) مسيحي، وبالتالي لا محاصصة طائفية ولا دستور ينص على أن تلك المناصب حكر على طائفة غالبة أو نافذة، ولا تهميش للآخرين، فلا ارتياب ولا رهاب من الآخر، والنتيجة لا عنصرية دينية داخل منظومة الدولة في الهند، لذلك ستظل الهند درة على تاج الإنسانية جمعاء وليست درة في التاج البريطاني كما يقول الإنجليز سابقاً، وإذا كانت الحضارة الإنسانية الإغريقية (اليونانية) التي أثرت الإنسانية ما زلنا ننهل منها إلى اليوم، فالحضارة الهندية يجدر بها أن تكون كذلك، على أن هنالك بعض السلبيات التي أتمنى على قانونيي ومشرعي الهند تداركها والالتفات لها، منها أم المشاكل؛ مشكلة الزيادة السكانية، فقد تكبر هذه المشكلة ويتعذر حلها فتصبح مصيبة، فتحديد النسل يجب أن يكون قانوناً شاملاً وملزماً للجميع، وأن يكون هناك عقوبة منصوص عليها وملزمة التطبيق لمن يخالفه، وتفعيل مثل هذا القانون ليس صعباً فقد لفت نظري أثناء زيارتي لولاية (كيرلا) بالهند عدم وجود متسولين بمختلف مناطقها وتبين أن هناك قانوناً صارماً يمنع التسول والمخالف مهدد بالجزاء الرادع داخل الولاية، بحيث تضع كل ولاية قانوناً صارماً على مخالفي تنظيم النسل بالجزاء الرادع وذلك حرصاً على مستقبل الهند.

وكذلك يجب أن تكون وحدة أراضي الهند بنص صريح في الدستور الهندي (وقد يكون ذلك موجوداً) بحيث يتم تجريم أي دعوى انفصالية بحزم شديد فلا تراخي في ذلك، فالتفريط في أي جزء أو ولاية من ولايات الهند معناه انفراط وحدة الهند، حتى لو أتت دعوة انفصالية عبر صناديق الاقتراع في إحدى الولايات أو كلها فحقوق الإنسان يجب أن تستبعد إذا كان ذلك يهدد أمن ووحدة الهند كوطن وكيان لا يتجزأ، وإذا حدث ذلك وتشرذم الهند فمعناه أن واحداً من الأوتاد المهمة للخيمة الإنسانية الحضارية قد خلع، وهذا ليس لصالح أبناء هذه القرية الكونية المسماة الكرة الأرضية.

abdurahman_alhathnni@yahoo.com

الرياض

مقالات أخرى للكاتب