04-11-2014

حَصَادُ الهَشِيم لِعام المشْأمَةِ

أُحِسُّ أن قلمي يَضْوى أمام أحداث مؤلمة، تجتاح عالمنا العربي، المرتبك في غُدوِّه، ورواحه. أحداثٍ موجعةٍ، لا يستطيع الفكاك منها، ولا التعامل معها.

وكم راودني الانغماس في التراث، لنسيان الواقع المرير.

عامُ أمتنا المنصرم حَصَادُه هشيمٌ تذروه الرياح؛ وعامها الجديد يتعثر في نتوءات السبيل. بل يتردى في مهاويه السحيقة.

والاستياء، والخوف يتفاقمان، حين تكون مثمناتنا الوطنية في مَرْمَى العدو. وحين لا يجدي معها الدفع بالتي هي أحسن. وحين نَشْدوا مع المتَضَجِّر:-

لَم أَكُن مِن جُناتِها عَلِمَ اللَهُ

وَإِني لِحَرِّها اليَومَ صالِ

هذا الوضع المخيف، والمتفاقم، لم تكن لنا ناقةٌ فيه، ولا جَمَلُ. ومع هذا فنحن مضطرون لِتَحَمُّل شطرٍ من أوزار المقترفين، الذين لوَّثوا صفحات التاريخ، وكدروا صفو الحياة، وأذهبوا ريح أمَّتِهم، وما زالوا في غَيِّهم يعمهون.

«حصاد الهشيم» كتابٌ لأبرز كتاب السخرية في الأدب العربي الحديث تَعَرَّفْتُ على إرثه من معرفتي لصديق عمره «عباس محمود العقاد» وأشفقت عليه من جراء ما اعتراه من فقر؛ ونكد حياة؛ وحَمِدْتُ له حُسْنَ إدارته لأزمة العوز، والفقر، والتشرد. وكم كان بودي أن يعرف الدائرون حَوْل الحمى، كيف تدار الأزمات، وتفك الاختناقات.

لقد ركن المعذبون في الأرض إلى السخرية، بِوَصْفِها الحل الوحيد، والمقدور عليه. ومن ثم توسلوا بالسخرية، فهانت عليهم المصائب. بل تضاءلت أمام جلدهم، وسخريتهم بكل ما حولهم من منغصات.

و[أدب السخرية] ملاذ المضطهدين الذين ضاقت بهم الحيل، واستنزفتهم الهموم، ولم يكونوا من ذوي المخلب والنَّابِ.

يأتي الأديب الساخر «إبراهيم عبدالقادر المازني ت1949هـ» صاحب الهشيم امتداداً طبعياً لأدب السخرية في الأدب العربي، الذي استوى على سوقه منذ [أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ت255هـ] ولما يزل يُراوح عبر العصور الأدبية بين الصعود، والهبوط، والطبع، والتطبع، الأمر الذي يثبت للأدب العربي أصالته وعالميته.

والدراسات التي أقيمت عليه، تسبر أغوار ذَوِيه وَتْكشِفُ عن الأصالةِ والتَّسَطُّح.

ولما لم يكن من شأني هنا تقصي هذه الظاهرة الأدبية التي يلجأ إليها المغلوبون على أمرهم، فإنني أحيل المتطلع إلى مجمل الدراسات التاريخية، والفنية، التي أنجزت عن هذا اللون من الأدب.

وتذكر أدب السخرية، لم يكن اعتباطاً، ولكنه مرتبط بالأزمات، والضوائق التي تمر بالمبدعين، أو بأممهم، ثم لا يجدون بداً من التعالي عليها بالسخرية.

ما لا نَوَدُّهُ لعالمنا اليأس، والإحباط، والانكسار. فالأزمات تصنع العزمات، والتحدي يستثير الهمم، والشدائد يعقبها الفرج. وفي الحكم [اشْتَدِّي تَنْفَرجي] والشاعر يقول:-

[ضَاَقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمتْ حَلَقاتُها

فُرِجَتَ وَكُنْتُ أَظُنُّها لا تُفْرَجُ]

ونحن أمة موعودة بعدم الفناء، ولكنها مُحذَّرة من استفحال الغثائية.

والغلبة لا تكون بالضرورة من القلة. ولقد تَصْدُقُ نبوءةُ من لا ينطق عن الهوى، حين حذر أمته من تداعي الأمم عليها، ووصف هذا التداعي بتداعي الأكلة على القصعة. فكان سؤال [الصحابة] عن القلة، وهو المخيف، وكان رد الرسول صلى الله عليه وسلم:- {لا. ولكنكم غُثَاٌء كَغُثَاءِالسَّيْل}.

ما نوده لعالمنا الراكض إلى الهاوية، [كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ] أن يقف حيث هو. وأن يحبس أنفاسه. وأن يلتفت إلى الوراء لينظر حصاد العام المنصرم، نظرة نقد، وتقويم. وأن يتقبل الهزيمة بروح رياضية، وأن يدع التلاوم، والإسقاطات، للخلوص من مسؤولية هذا الحصاد، [فَيَدانا أوكتا، وفُوْنَا نَفَخَ]. ولا مجال للتنصل، والمزايدات. هذه مسؤوليتنا. وقدرنا الأصعب حمَّلنا مسؤولية التصرف، والتحيز، والتحرف في ظروف عصيبة، وغير مواتية.

[صلاح الدين] رَجُلٌ فَرْد استطاع أن يتحامل على انكسارات أمته، وأن يعيد إليها ثقتها بنفسها. وأن يجمع نثارها. وأن يُرهِب عدوها، وإذ لا نحلم بتلك الانتفاضة، فإننا نود من رجالات أمتنا التحرف، لفعل يوقف التدهور. ففي أمتنا خير كثير، ورجالات كُثْر. وعليها بادئ ذي بدء تشخيص الداء بشجاعة، وثقة. وبدء رحلة العودة بِخُطى وئيدة، لا بقفزات بهلوانيةٍ، ضررها أكبر من نفعها.

لم يعد بالإمكان الخلوص من الأدواء المستشرية، إلا بثمن باهظ، يتمثل بالتفكير السليم، والتخطيط الدقيق، والتصفية الصريحة، والتربية الجادة، والتسامي فوق الطائفية والإقليمية، ونبذ الفرقة، والاختلاف، والأثرة. وتداول القضايا المشتركة بندية، وتكافؤ. واستغلال القواسم المشتركة باحترافية. ورفع الملفات الثانوية. والخلوص من القابلية للتخويف، وعدم الاكتفاء بقطع ذنب الأفعى.

وإن لم نتدارك الأمر برؤية شمولية، أدركتنا سياسة الاحتناك، والتآكل البطيء، وأصبحنا أثراً بعد عين.

لقد قَلَّبْنا الأمور لأنفسنا، ومَرَرنا بتجارب عدَّة، أحْسبها كافية لاتِّقاءِ المغامرات، وتفادي النكسات. ولم يبق إلا الصَّحْو من خدر الإعلام الماكر، على شاكلة [الملك الضليل] الذي ضيَّعه أبوه صغيراً، وحمَّله دَمَه كبيراً.

لقد ضيع الانقلابيون العسكريون أمتهم، يوم أن كانت قادرة على انتزاع حقها بقوة، وألقوا بتبعاتها على المضَيَّعِين الذين لما تزل فيهم بقية. عسى أن يتداركوها، ويُرَبُّوها، كما يُربِّي أحَدُنا فُلُوَّه.

وإن لم نفعل فاتنا حتى رَعْي الهشيم.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب