09-11-2014

{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}

يمثل الوعي بالواقع مكوناً عاطفياً، يمتد إلى كل مناحي الحياة. والوعي شرف من جملة النعوت التي تُصفّ في مقاييس الناس. ولا فرق في امتلاك تلك الصفة بين وعي واقعي محدث أو بما هو عتيق؛ المهم أن الوعي يوصلك لهدفك سالماً؛ ولاسيما أن زمر الوعي تلك هي مفاتيح الإصلاح، وطاقات المروءة، وفيوض الرحمة التي ينطلق شعاعها من مختلفي النظرة، ومختلفي التوجُّه،

ومختلفي القيم، التي اعتصرها واقعهم، فعصرتها أنفسهم قطرات ندية، تلامس الفضائل، وتدغدغ مشاعر الناس؛ لتصل إلى مواقع الصفاء عندهم، فتسمو توقعاتهم عن الحياة، وينتشر الأمل في محيطهم، وتقطر الثقة زلالاً تخضر معه رياضهم وحياضهم، ليحفز مستودعات المعرفة، ويقوم العثرات التي لابد من طيها إلى الأبد؛ لتتحقق مشيئة الخالق في عمارة الأرض {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِه وَإِلَيْه النُّشُورُ} (15) سورة الملك.

بالوعي نحترم قوانين الواقع, وبالوعي نكون أفراداً وجماعات مؤثرين وفاعلين:

إنما المرء حديث بعده

فكن حديثاً حسناً لمن وعى

وبالوعي تتحقق حالات التوقع المثلى لاستجلاب سرور جديد، كما أن ارتباط المفاهيم وإدراكها حسياً ومعنوياً هو من نواتج الوعي التي يقدمها الإنسان, ويسوقها ضمن إطار من الصدق والإخلاص، وتعزف على أوتار النفس شعوراً وارفاً بأعماق الأعماق؛ لتبدأ قوافل الإصلاح تشقّ لها طرقاً ممهدة؛ وتصمم لوحة جميلة تزيّنها براءة الفطرة, وسمو المبادئ العليا؛ فيكون النصح كالأمواج المحتدمة التي لا يقرّ لها قرار إلى أن يشاء الله رب العالمين. كما أن من تباشير الوعي أن تتبدّد أسراب التخرصات التي تتوافد على الفكر الإنساني، وربما تقضي على الأخضر واليابس في ذات نقية، كان ديدنها الحلم والأناة والحكمة.

وإذا كان الحب قسيم الحياة فإن للوعي لحظات في الخصوصية، يتمازج فيها الشعور بما تتطلبه المشاركة الوجدانية في عمارة الأرض من خلال الإدراك الكامل لما يجب أن يقطف من الثمار وما يجب أن يعالج لينضج، أو أن يبقى في عرائسه لأزمان معينة. والواعون لمفاصل القول والفعل هم الذين يعيشون اللحظات متعددة الميلاد؛ فتستوعبها نفوسهم في كل الأمور التي تبعث النفس على الفعل أو الترك؛ لأن مدارج الحياة تبحث عن البشر وهم في أنماط خاصة لتحقيق الرؤية الموضوعية المعتدلة للحياة، ولتوليد أصداء جميلة عن نواتج السعي والكفاح من أجل بسط الظلال على أماكن الكادحين الذين يحملون تفاصيل الذخائر الملأى بالإشارات إلى التجارب الثرة, حيث وهج الإيمان يشرق من نفوسهم بأنّ الله جعل الإنسان خليفة في الأرض؛ لتصبح الأرض مخضرة.

قال تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّه الدَّارَ الْآخِرَة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (77) سورة القصص. وحيث إن الإنسان يستطيع أن يستبدل واقعه في أحواله الضيقة بمعان أنيقة واسعة إذا ما كان الاعتدال والتفاؤل مفتتحاً لكل شأنه, فالمعادلة لا تعدو إلا أن تكون اتصالاً بالخالق - عزّ وجل - ومن ثمّ تسخير طاقات الإيمان لإيقاد شعلة الانطلاقة نحو مناكب الأرض.

في تلك الواحات الواعية ينتصر العقل؛ فينتشر السلام والإخاء؛ وتمنح النفس الإنسانية دوراً متقدماً في الإحساس بالمجتمع, ونستطيع أن نبلغ أولوياتنا, ومن أين نبدأ, وإلى أين نتجه, ثم نحدد ما هي الدلاء والرواحل التي تصلح لتلك المفازة دون سواها, وما يصلح لأعالي الجبال, وما يناسب السهول المنبسطة, وما هو لازم لأجواز كثيرة جف منها الضرع.

نعم، هي أوقات امتزاج بين العقل والروح، واتحاد صحيح دون معاهدة؛ ولا يلزمه مبضع جراح ليفصله يوماً؛ ولا يبرهن عنه بأدلة؛ فهو نهار تسطع شمسه:

وليس يصح في الأفهام شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

مقالات أخرى للكاتب