بُريدة

يُقال العنوان يُنبىء عمّا في الإيوان، فلم أجد (أوفى) غرضاً وأتمّ إطاراً لمادتي هذه من أن تتوشّح باسم المدينة التي تحوي أبعاده، فهو - وحده - العنوان الأوفى لها.

ثم.. أَذكر بيوم ٍٍ أفرد الوفي و(الوافي) عبد الرحمن الخميس كتابا، بل يعدّ سِفرا عن أحد ضواحي بريدة: (اليوم) القصيعة، وعنوانه: « القصيعة، عراقة.. وإشراقة»، فأذكر كم أحتفى به شريحة (عريضة) أن ازدانت غبطتهم به، ولا غرو البتة، فهي المنبتُ لي، و(لآبائي وأجدادي) و.. كما مزدلفة مشعر البيت الحرام (تُقضى بها جلّ المشاعر، بل تسكب العبرات.. فكذلك رآم ماضي الخميس بوصفه سلفاً للقصيعة أنها مشعرُ نجد، ورحم الله عمتي نورة، وقد ذكرت لي ذلك.

وقد (كانت) من قبل تقدم خُطى التحضّر (خبّ) - أي: سهل بين مرتفعين - ، وعلى سواد المدينة الأم (بريدة)، من جهتها الجنوبية الغربية..

بالذات.. وقد طوّقها الدائري حديثاً، فأمست كـ (تبيعاً) من أحد أحيائها.

.. ومن هنا أقولها، بل أُطلقها / ليس من مَجدٍ يُحسب لك فيُجدي.. يوم تكتب عن البعيد وتُهمل القريب!، كما ليس من عزّة أن تُثري عما تُحبّ، وتترك ما عليك يجب..

إذ للأسف.. كم من ابن (غرٍّ) حفل بالزوجة وهو - للعلم - لا بأس، بل إنه مطلوب، لحديث {خيركم خيركم لأهله}، لكنّ مكمن العتب أنـّه آتٍ على حساب ما هو أولى (حقّ الأم..) كذا قرّب المربين حول حال (العاقين)!

وكم صدق (العوني) يرحمه الله، يوم ساق لومه - كما سيأتي - : هي أمّنا.. يا حلو مطعوم درَّها..

و(الدّر) أي حليبها، بل ما كان لعطائي - إن كان ثمّة من عطاءٍ (يُذكر) - أن يمضي في استغراقٍ مُطارح لما استَملح، ويدع المنبت!

.. قد يُستملح ما ليس بالحسن

وتُعشق الأرض لأنها وطن

وإلا كم ذهبت كثيراً في ذكر (الشام)، وروضها، و»سياتل».. ورياضها أيام دراستي هناك.

لكم أعجبني ملامة أحدهم (الوطن تُحبه برغم كل عيوبه أو نقصه)، نحو.. نظم راقٍ، نُسب لإبراهيم طوقان:

بلادي (وإن جارت عليّ) عزيزةً

وأهلي (وإن ضنّوا) عليّ.. كرام

طبعاً، هذا على فرضية، وإلا.. فهي (في دواخلي) وربي أي بلادي: أعزّ وأكرم.

لأنها - كما سيأتي - بمقام الأم!، إذاً.. إن أردت النُّصح أو نقد العيب فليكن بل هو الواجب، بدلاً من السلبية المقيتة، وأعلم أنـّه لن يردّك أحداً عن هذا.. شرط: بما يحفظ البْرّ والإحسان، فلا يصَحّ ولا (يهضم) نقدٌ.. يجرّ إلى العقوق!

فوالدك قد يبدو منه تصرف خاطئ، فلك إن أوتيت حظّاً من العلم.. إيضاح له ما هو الأصوب إنما بأدب.

مع تنبيهٍ حول (طفيف) ما.. بين مدح الذات، وذكر ما بلغته، فلا يعدو شعرة!

هي.. مقاربة للذهاب إلى مزلقٍ.. بين التواضع الحق والتموضع المردي للذات.. بالأخصّ حين تكون.. بين يدي منهم دونك!

وأينك من قول يوسف - عليه السلام - {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.

وإليك المثال الناصع: هل تطمئن إلى الصلاة خلف شخص يلحن بالقراءة!، فكيف إن كنت أنت أحفظ منه لكتاب الله؟

الاسم.. سَدنة المعارف يقروّن بأن (الأسماء لا تُعلل).

لكن إن أتى عضيد أو (رافد) يصبّ في إناء مصداقيته، فلا مانع من الأخذ به، شريطة أن يورد لا على سبيل القطع به.

بناءً.. على ما تقدم، نورد.. هذا / أن الروايات كثيرة، والمراجع كذلك، وهذا بالمناسبة ما يجعل - مع (الكثرة) - التمحيص يقلّ، بل وقد يختلط!، وهذا معلوم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى.. ما أشار له الدكتور.

صالح اللحيدان - كـ - تعليل يرفدني.. إلى أن: (النسّابين يأخذ بعضهم من بعض..) الخ، يقصد من ذاك أنه يستند بعضهم لما بلغ البعض، أو سَبق إليه، ثم مرّر في تورية لماحةً إلى (العتب):

(.. وأن قليل منهم من يستقصي)، فيبحث بحثاً متعمقاً.

لكنّ المطالع البسيط كـ (مثلي) وليس من أُوتي حظاً في اتون ذلك..

هو - ملزم - أن يُصدر مما اتكاء عليه اطمئنانا إليه غالب القوم، وخطّي هذا، هو خلاف صنيع الضليعيين.. ممن ذهب أحادهم وبحث درجة التمكّن لما يقدّم.

فهو - أعني من مثلي - أمام خيارات، فإما أن ينقل أكثرها شُهرة..

أو أقربها بظنه إلى الوقائع، فيفعل ذلك.. ولو من باب تفنيد الاتهام عن الذات من الاتهام.. في حال إرجاع المقالة إلى من أصدرتها منه، و.. (لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره) كما هو الفرق بين النائحة الثكلى والأخرى.. المستأجرة!

ثم فهذه (أمانة) تُحسب لكِ، كما.. وأن ما (قد) يقع عليها من خطلٍ يحسب على من نقلتها منه، لا.. عليك!، لتبراء به ذمتك.

.. أو خمطٍ وهو أنكأ!، فهو محسوب عليك،ٍ فالنقل أمانة، وكذا أمانة أخرى في حق المتلقي الذي وثِق بك.. أن تنقل - له - ما يستحق، و(موثوق) صحّته.

فهذا جزء لا يتجزأ من تلك الأمانة، يوم السؤال:{.. وعن علمه ماذا عمل به..}؟

(المادة..)

.. حول النشأة: وهذا أولاً، إليك تقريب / تقريبا في عام 985هـ.

جاء في كتاب [تاريخ نَشأة مُدن وقُرى نجد ومعاني أسمائها]، للأستاذ (منصور بن عبد الله الشعيبي) - ص 58 / 59 - : أورد الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى في ذيله على (تاريخ ابن بشر).. وهذا نص كلامه في حوادث 1292:

« آل أبي عُليان من العناقر من بني سعد من زيد بن تميم خرجوا من بلد ثرمدا للحروب التي وقعت للعناقر في (ثرمدا) وفي بلد (مرات) لطلب الرئاسة، وسكنوا (ضرية)، ورئيسهم إذ ذاك راشد الدريبي، وكانت (بريدة) إذ ذاك ماءً لأهل هذال، المعروفين من شيوخ عنزةِ، فاشتراها منهم راشد المذكور، وعَمَرها وسكنها هو ومن معه من عشيرته، وذلك في سنة 985 تقريباً «.

النص الثاني: قال الشيخ مقبل الذكير في تاريخه (مطالع السعود): « أُمراء بريدة (آل أبي عليان) وهم الذين أسسوها، فإن جدهم الأعلى راشد الدريبي، اشترى موضعها من آل هذال شيوخ عنزة وكانت في ملكهم، ثم عمرها سنة 985هـ وسكنها ومن معه من عشيرته «.

.. وهذا ما أكده الباحث (عمرو بن إبراهيم العمرو) في رسالة ماجستير صدرت حديثا.. بعنوان (بريدة، في عهد إمارة حجيلان بن حمد آل أبو عليان التميمي 1194 - 1234هـ)، إلى / أن (آل أبو عليان من العنقري) المنقري.. من بني سعد، قبيلة (تميم) العدنانية.. وهم أُمراء بريدة خلال ثلاثة قرون، من عام 985هـ إلى عام 1281هـ كذلك هم (كما هو ها ثابت لدى المؤرخين):

من اشترى بريدة وملكوها، وسكنوها عام 985هـ حيث كان أوّل أمير فيها، وهو من قام بشراء بئر بريدة الأمير: (راشد الدريبي آل أبوعليان).

ثانياً: عن التسمية:

ما أورد الشيخ: « محمد بن ناصر العبودي « بكتابه (معجم بلاد القصيم) ج2 ص 465 (ط 2)، عدة روايات.. تُعلل سبب تسمية «بريدة»، وهي:

1 - أنها سُمّيت (بُريدة) لكثرة مائها وبرودتها، وتأكيداً.. أن / هذا ما رجحه الدكتور محمد الربدي من (أن سبب تسميتها ترجع إلى: برودة مائها و.. وفرته) - انظر بريدة.. نموها الحضري، الجزء الثاني ص 27 - .

2 - أنها كانت روضة مجمع مياه ينبت فيها نبات البردي، وكانت هذه الروضة تقع في الأراضي الطينية في غرب المدينة القديمة تسمى « البردية « نسبة إلى البَّردي، ثم حُرّف هذا الاسم إلى بريدة.

3 - ويُقبل أنه كان في غربيها روضة تجتمع فيها المياه حتى إذا غاض ماؤها أصبحت باردة، فسّماها الناس (بويردة) ثم (بريدة) تخفيفاً.

(مع ملحظ): أن عند أهل نجد - عموماً - منحىً في تصغير أو ما يُوسم بـتخفيف الأسماء، كـ.. نوره إلى (نويّر)، سارة سوير، وأحمد حميّد، أو حمّود، ومحمد محِيمد، ومحيميد.

4 - أنها سميت على الصحابي (بريدة بن الخصيب الأسلمي) رضي الله عنه، الذي حفر بئراً في موضع بريدة فسمّي به، ولعلها من أكثر الروايات التي يستأنس بها، و(قد) يُتكأ عليها.

5 - أنها سُمّيت باسم رجل يقال له (البريدي)، واليوم عائلة كريمة تحمل هذا الاسم سواءً أكانت هي - العائلة - ابتداء هذا مسمّاها، ثم.. المكان نُسب إليها، أم سبق فنُسبت العائلة إليه؟

ثم.. ما عليّ من سبيل لوم بعدُ.. في (احتفائي) بهم، فهم أنساب جدي (لأمي) بكريمته الخالة لولوة بنت عبد المحسن المطلق يرحمهم الله جميعاً.

6 - أنها سميت باسم امرأة يُقال لها (بريدة).

ثالثاً: عن.. مكانها.. وتحديداً من رُبى (نجدٍ)، فكما حدّد العوني - يرحمه الله - .. أنها:

مكمن (دار) ربينا بربعها

معلوم (خشم الرعن) من شمالها

ومن شرق طعسين الأرخم تحدّها

بين اللّوى والسّر.. ما أطيب سهالها

و(اللوى): منطقة ذكرها امرؤ القيس في مطلع معلقته بـ (سقط اللوى.. بين الدخول فحوملِ).

وهذا كلّه - مرفوداً - بما ذَكرت (مع ما ذكرت) من إضافات وتعليلاتٍ..

إبّان سطّرت كتابي عن سيرة والدي.. والذي طُبع عام 1425هـ عنوانه: (هذا أبي، الشيخ علي).. يرحمه الله، في ص 56 وهوامشها، ولا غرو، فقد وُلد وترعرع بها..ٍ

بل لقد خالط حبّها أمشاجه،.. ودماء عروقه، عليه ووالديه ومن لحقه من أزواجه.. شآبيب الرحمة، وجمعنا بهم في خلد الجنان.

و.. من تلكم (الأمشاج) أنثر التالي:

عواطف.. مما تكتنزه المُهجة لها، لا.. بل من أقل (حق) هذه الدار.. التي كانت منبتنا، والمأوى بالصغر.. قضيناهُ هنالك، وفي تلك (الربوع).

بل.. إن وجداننا بيومٍ - تولّى - احتضن في (مراتعها)، وجدّلناه من شرخ الشباب، وما كان به من وطرٍ هنالكا..، فهي:

دار بنجد كان (قبل ذا)

ومن صكته غبر الليالي عنالها

وصكّ الباب، أي: أُغلق بوجهه، ويقصد - الشاعر العوني - :

أن من لقي من دنياه مغاليقاً.. من همٍّ، أو غمّ (عنالها)، فهو - عندها - لا ملجأ من ذاك إلا إليها، و.. كما يذهب الرجل - حتى الكبير - إلى أُمه، إذا ما ثقلت عليه أعباء حياته.. لا ليبحث همّهُ معها، أو ينشد.. منها فرجاً! لكن مجرد الجلوس في حضرتها ويقضي تفثاً من ذاك، دون أن يصدره، ما يجعله ينسى.. حين يستصغر كل همّ، أو حتى إن عناه من دنياه شيء، فلا يفعل ذلك لشيء، ولكن حاجة دواخله، وإن!.. فلربما (بثّ) مما يجد إليها، وعندها يحسّ براحة عميقة.. تكفيه.

وهذا معنى لا يعيه.. إلا من خير الدنيا بحقٍّ.

ثم يقول - ذات العوني - أنها:

وَصفَها من الخفرات بيضا عفيفة

تفوق كل البيض، باهر جمالها

بل.. إلى درجة.. أنّ

حسودها يغضي إلى مرّ حولها

.. من خوف عيالٍ تربّوا بجالها

وفي (عجز) هذا البيت السبب

لكن.. الإشكال يقع عند من لم يشبّ عن الطوق (بعد):

في الظن.. أن القادم كله أحلى!

وفي المقابل الزعم.. من أن الماضي غابر كلّه!

وما يدريهم لعل الماضي (وروحه) أو رواح ما تترى أنفاسهُ في داخلنا له، كان أزهى،.. مهما ازّينت الدنيا (الأُخرى) - القادمة - بأعيننا!

إذ سرعان ما تطويها الذاكرة وراء عبق جميل ما تولّى، من نفحْ ذاهل للأعصر الأول، أكان ذلك للمكان أو القطان، أو..

فما يجد ذاك من طلّ إلا بقيةً.. من (بذورٍ).. لعمر جميل رحل.

وحاكى المعنى عبد العزيز المسلم - رحمه الله - مخاطباً (أغرار) من أولئك:

هَبونا.. ارتقينا للسماء لوحدنا

وسارت لنا في كل فلكٍ قوافلُ

أَتورق أغصان نأت عن جذورها

هل تبسم الأزهار والغصن ناحل؟

أي بإيجازٍ لمرامه: هل من (قمّةٍ).. ليس لها جذور؟

لا.. أبداً، وإن شككت بالجواب، إلا فسأل بذلك (يتيماً..) خبيراً بألم الحرمان، والأمان، و.. الخ.

* * ** **

المراجع

1 - تاريخ نشأة مدن وقُرى نجد، ومعاني أسمائها - الشعيبي - .

2 - معجم بلاد القصيم - للعبودي - ج: 2.

3 - بريدة، نموها الحضري، وعلاقتها الإقليمية - الربدي - ج:2.

4 - بريدة.. في عهد إمارة حجيلان - العمرو - (رسالة ماجستير).

5 - مطالع السعود.. في تاريخ نجد وآل سعود - الذكير - .

6 - القصيعة عراقة، وإشراقة - الخميس - .

7 - .. مع مراجع كتاب (هذا أبي الشيخ هلي) - لصاحب هذه السطور - .

ختم.. قام بـ(نقل) وتصحيفٍ هذه المادة من مظانها /

ابن (بريدة) المقصّر: بحقّها، كذا لآم بيوم (العوني) يرحمه الله.. بما تقدم من قصيدته «الخلوج..» المعروفة حق المعرفة،.. ومن أهل بريدة بالذات!

وكأنه (لائماً).. بل لائحاً، أو عاتباً.. أمثالي، في قوله..

لكن نسينا وصالها.

- المحبّ (لها) عبد المحسن بن علي المطلق

تويتر: Mohsn Almutlaq