أوروبا الشرقية.. خمسة وعشرون عاماً من الانتقال

ديفيد ليبتون - واشنطن - العاصمة:

يا له من فارق كبير ذلك الذي قد يحدثه ربع قرن من الزمان! ففي عام 1989 شرعت أوروبا الوسطى والشرقية في تحوُّل تاريخي، من الشيوعية الاستبدادية إلى الرأسمالية الديمقراطية. وبينما بدأت ذكريات الأنظمة القديمة تتلاشى بالفعل يبدو من المناسب أن نلقي نظرة على الإنجازات التي حققتها المنطقة في هذه الفترة، وأن نراجع الدروس المستفادة، وندرس التحديات المقبلة.

من الخطأ أن نفترض أن نجاح التحوُّل في المنطقة كان حتمياً. ففي ختام الحرب الباردة كانت اقتصادات أوروبا الوسطى والشرقية مثقلة بإرث ملكية الدولة والاستثمارات المكثفة في الصناعات الثقيلة. وكانت السياسات المالية والنقدية تركز على تعزيز النمو الصناعي من دون النظر إلى توازن الاقتصاد الكلي؛ الأمر الذي أفضى إلى زيادة الطلب المفرط والعجز بشكل مزمن. ولكي تزداد الأمور تعقيداً فإن القسم الأعظم من المنطقة ـ باستثناء تشيكوسلوفاكيا ـ كان مبتلى بالديون الخارجية غير المستدامة والتضخم الذي ارتفع إلى عنان السماء.

ومن ناحية أخرى، كان عدد قليل من خبراء الاقتصاد أو المشرعين يتمتع بالخلفية اللازمة للتعامل مع المهام المعقدة المقبلة. وكان ذلك هو حجم التحول الضروري الذي لم تكن نماذج الاقتصاد الكلي الحديثة ولا خمسون عاماً من خبرات صندوق النقد الدولي كافية لتقديم القدر اللازم من النصيحة لتوجيهه. وكانت التحديات قاسية، وتصور كثيرون أن التحول سوف يكون مستحيلاً.

ولكن بدلاً من ذلك، ساهمت أربعة مكونات رئيسية في تحقيق الانتقال الناجح. فأولاً: تصدى الساسة وصناع السياسات بشجاعة للتحدي المتمثل في تصميم الإصلاحات المهمة، وكانوا حريصين على شرح النتائج لجماهير الناس التي كان قلقها مفهوماً، وكانوا مدركين للطبيعة التاريخية للمهمة.

ثانياً: ركزت استراتيجيات الإصلاح بشكل متوازن على الضرورات الأساسية: تحرير الأسعار بحيث تعكس الندرة، وتعمل على تسهيل عملية تخصيص الموارد، وتثبيت استقرار الموارد المالية لإنهاء العجز والتضخم، وخصخصة الشركات والأصول المملوكة للدولة من أجل تحسين إدارة الشركات وأدائها. وفي عموم الأمر، تمكنت البلدان التي نفذت هذه السياسات من تحقيق التقدم الأسرع والأكثر اكتمالاً.

ثالثاً: وفر إغراء الانضمام إلى أوروبا من جديد بعد سنوات من العزلة، إلى جانب التزام الاتحاد الأوروبي بالتوسع، قدراً كبيراً من الجاذبية، وقالباً تشريعياً ساعد صناع السياسات في تبرير وتنفيذ الإصلاحات الصعبة. وكانت القوانين التي تفتقر إلى الشعبية تتسبب في إسقاط الحكومات أحياناً، ولكن الاختبار الحقيقي لأي سياسة جديدة ظل متمثلاً في مدى نجاحها في إعادة هذه الاقتصادات إلى أوروبا.

وأخيراً، ساعد الدعم الخارجي البلدان المثقلة بالديون في المنطقة في مواجهة المهمة المزدوجة المتمثلة في تنفيذ الإصلاحات البنيوية، والتغلب على عدم الاستقرار المالي. كما ساعد التمويل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير والجهات المقرضة الثنائية، جنباً إلى جنب مع تخفيف أعباء الديون من جانب البنوك الدائنة الرسمية والتجارية، في تخفيف الضغوط. وساهمت المساعدات الفنية، وبناء القدرات، ودعم الخصخصة، للبنوك بشكل خاص، في تمهيد الطريق.

في الإجمال، كان التقدم مبهراً. فقد حققت بلدان أوروبا الوسطى مستويات من نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي (قياساً بتعادل القوة الشرائية) كافية لوضعها على الدرجات السفلى من سلم الدخول في منطقة اليورو. وتحسنت مستويات المعيشة في المنطقة بشكل كبير، حتى وإن كان تحقيق التقارب الكامل مع أوروبا الغربية لا يزال بعيداً.

ومن غير المدهش برغم ذلك أن تبدو الصورة غير وردية على الإطلاق؛ ذلك أن بعض البلدان، خاصة في البلقان وكومونولث الدول المستقلة، لا تزال بعيدة عن إتمام الانتقال، وقد مرت بدورات متكررة من الأمل والأزمة. وكما كانت الحال في مناطق أخرى من العالم تباطأ النمو في المنطقة بشكل حاد منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008. كما تباطأت وتيرة الإصلاح في العديد من البلدان، وانعكس مسارها في بعض البلدان. وتسببت اعتبارات جيوسياسية في زيادة الأمور تعقيداً على تعقيد، كما أظهر الصراع في أوكرانيا.

واستشرافاً للمستقبل، نستطيع أن نتصور سيناريوين عريضين. في الأول تخاطر المنطقة بالدخول في دورة من النمو الضعيف، والتراجع عن السياسات الداعمة للسوق، وتفاقم حالة خيبة الأمل والإحباط. ونتيجة لهذا فإن التقارب مع أوروبا الغربية قد يتباطأ، مع تخلف العديد من البلدان عن الركب، وهي نتيجة مختلفة كثيراً عن تلك التي كانت متصورة خلال فترة الرواج في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما بدا التقارب في غضون جيل واحد وكأنه حق مكتسب بالميلاد.

وفي السيناريو الثاني الأكثر إشراقاً يستمر التقارب مع مستويات الدخول في الاقتصادات المتقدمة بدعم من التركيز على اثنتين من الأولويات، اللتين فصلهما تقرير صندوق النقد الدولي الجديد. فالالتزام المتجدد باستقرار الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي من شأنه أن يسمح للحكومات بالسيطرة على العجز المستمر والديون المتنامية ومعالجة المستويات المتزايدة من القروض الرديئة في اقتصادات بلدانها. ومن ناحية أخرى، تعمل الإصلاحات البنيوية الأكثر عمقاً على تحسين مناخ العمل والاستثمار، وتعزيز حوكمة الشركات، وتوسيع القدرة على الوصول إلى الائتمان، وتحرير أسواق العمل، والسيطرة على الإنفاق العام، وتعزيز الإدارة الضريبية.. وكل هذا من شأنه أن يضع هذه الاقتصادات على المسار الصحيح لتحقيق النمو السريع المستدام.

ومن جانبه، كان صندوق النقد الدولي شريكاً ملتزماً لأوروبا الوسطى والشرقية، وتحولها طيلة خمسة وعشرين عاماً، وهو على استعداد لمساعدة بلدان المنطقة في جعل ربع القرن القادم على نفس القدر من الإبهار.

ديفيد ليبتون - النائب الأول للمدير الإداري لصندوق النقد الدولي، وكان كبير مديري المجلس الاقتصادي الوطني ومجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة أثناء إدارة الرئيس باراك أوباما، ووكيل وزير الخزانة للشؤون الدولية في عهد الرئيس بل كلينتون.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2014.

www.project-syndicate.org