22-11-2014

العَقْلُ الجمالي: (2 - 3) قِيمٌ جَمَاليَّةٌ .. وَقِيَمٌ في القُبْحِ، أو البرودة:

قال أبو عبدالرحمن: في التراث دلالاتٌ سيميائية معهودة أو عُرفية ولا سيما عند أهل التصوف كدلالة الخمْرة على غيرِ معناها القبيح، وكدلالة الحُمْرة والزرقة عندهم وعند غيرهم، ودلالة الصُّفرة على باعثها كالوجل،

وكخفايا الإعجاز التي دقَّق فيها عبد القاهر والسَّكَّاكِيُّ والباقلاني، وكدلالة الأصوات جمالياً في الألسنية العربية التراثية كما عند ابن جني وشيخه أبي علي الفارسي.. وهكذا أريد المعهود التاريخي للشاعر وجيله في استكناه فضاء النص إذا لم يكن الصمت عن نقيض لا عن ضِدٍّ؛ لأن النقيض متعيِّن، ولا ثالث للنقيضين إلا العدم.. وأريد استكناه المُحتَمَل في فضاء النص، وهو باب واسع من الاستنباط في تراثنا إذا تناول العلماء قراءة النص الشرعي أو النص من أدبيات العلوم الأخرى.. إلا أنهم لا يُحَمِّلُون فضاء النص ما يتنافى مع معهود قائل النص الشرعي المعصوم، ولا مع معهود قائل النص من البشر من ناحية تديُّنه أو تمذهبه، وكل ذلك معروف من سيرته.. والمحتملُ في حيِّز الإمكان لتخلُّف المُقتَضِي والمانع معاً، وهو مُوجِبٌ التوقُّفَ عن التعيين؛ لتخلُّف المُرَجِّح.. ومن المرجِّحات معهود الشاعر وسيرته؛ فكل فضاء في مثل لزوميات أبي العلاء المعرِّي لا يمكن أن تستنبط منه هضماً صحيحاً لبراهين العلم يمنعه من التشكيك، ولا يمكن أن تحمله على إيمان صادق بالله، ولا يمكن أن تحمله على حيرة صادقة حول عدل الله وإحسانه في مخلوقاته، ولا يمكن أن تحمله على براءته من غُنوصيَّة الباطنية المُجرِمة، ولا يمكن أن تحمل غير المسكوت عنه من التمظهر بالشفافية والرحمة على غيرِ الترويج للإحْنة الباطنية.. ولا يمكن أن تستنبط من فضاء النص ما يتنافى مع المقام الكريم في دين الله المعهود عن قائل النص من أعلام المسلمين القائِمِيْنَ مَقام الغيورين الصالحين.. وما يفعله مسترحلو عبث السيميائية للتشكيك في سلوك ونوايا.. [قال أبوعبدالرحمن: تصحُّ النوايا جَمْعَ كثرة مراعاةً للأصل، وهو (نَوِيَّة) مثل طويَّة تُجمع على طوايا، وهذا التصريف لا يفتقر إلى سماع مُدوَّن في متون لغة العرب؛ لأن الوزن ثابت في علم التصريف الاستقرائي.. وأما جَمْعُ نية على (نِيٍّ) في قول النابغة الجعدي رحمه الله:

إنك أنت المَحْزُون أثر [م]

الحيِّ فإن تنوِنِيَّهمْ نُقِمْ

وهو من المنسرح؛ فذلك ضرورةُ شعرٍ لا سعةٌ في اللغة، والضرورات ضرائر: وهؤلاء المُسْترحلون هم مِن أعداء مِلَّتنا ونحلتنا وكياننا تاريخاً ولغة وتَرِكَةً.. والتأويل منه ما هو شهوةُ متستٍّر بالنفاق حول الإيمان بالنص وقائله، ومنه ما هو اسْتِئْسارٌ لتراث بشري يعتقد أنه كلَّه هو المعقولُ كسلوك ابن طُفيل وابن رشد في تأويل الشرع تمسُّكاً بمنطق أرسطو وفلسفةِ الأوائل اللذين يسميانهما الحكمة، ويريان أنهما العقل؛ وهؤلاء هم أهل تجهيلِ علماء الشريعة ووصفهم بالعوامِّ.. والتأويل له أصوله البرهانية من علوم الدلالة، وليس الغرضُ منه تعطيلَ النص؛ وإنما غرضه سَبْرُ سياق الكلام لمعرفة مآل دلالته إذا تعذَّر الحمل على الواضح الجليِّ، أو قام البرهان على عدم إرادته، ثم لا بُدَّ ضرورةً من دلالةٍ على مآل الكلام من لغة المتكلِّم نفسه؛ فإذا تخلَّفتْ دلالةُ التصحيح من لغة المتكلِّم لم يكن ما سُمِّي مآلاً سوى افتراءٍ شهواني على قائل النص.. وكل دلالة سيميائية استجدَّت ليست من معهود صاحب النص، ولا من الثقافة المشتركة في أبناء جيله: فلا يحلُّ - لا خُلُقاً، ولا فكراً، ولا ديناً - تفسيرُ نصِّه بها؛ لأن ذلك هو الافتراء والإفك بعينه.. هذا من ناحية التأصيل، وأنتظر من الدكتورة حورية لمساتٍ تطبيقيَّةً تجتلي من قصيدة الدكتور عبدالعزيز ما ذكَرَتْهُ من معطيات علمية وإنسانية.. إلخ.. إلخ؛ وذلك هو ما وَعَدَتْ به تطبيقاً؛ فقد أوردتْ قصيدة العزف على الجدائل من ديوان (مئة قصيدة وقصيدة للقمر) الصادر عن الدار العربية للعلوم، ولم أطَّلع على هذا الديوان، ولكنني نقلتها من الديوان الكبير للدكتور عبدالعزيز [رحلةُ البدْءِ والمُنتهى / دار الأبحاث بالجزائر / الطبعة الثانية عام 1431هـ]؛ فماذا قالت حفظها الله في دراستها التطبيقية؟!.. إليكم هذا التحليل المبارك.. قالت: «وقد وقع اختيارنا على قصيدة (عزف منفرد على ليل الجدائل) لعبدالعزيز خوجة؛ لأنها تجمع بين تداخل الفنون: الشعر، إلى جانب الموسيقا، والتشكيل من حيث صورها الشعرية؛ فبدت القصيدة بمثابة لوحة بارعة الرسم، تثير اهتمام القارئ، وهي كذلك بمثابة قطعة موسيقية في تناغم حروفها وأصواتها؛ فعزفٌ منفرد على ليل الجدائل بمثابة عزف منفرد على وتر النص الشعري لإيقاعها المُمَيَّز الذي تُحدثه المقاطع المتوازنة والتناسق الجميل بين الألفاظ والحروف «.. [التجليات الفنية ص26-27].. ومعنى كلمة (بمثاب) في كلام الدكتورة: (بمكان عزف العود الذي يثوب إليه الناس)، وقالت: « فالقصيدة بمثابة قطعة موسيقية، ولا غرابة في أن يستعمل فيها مصطلحات تنتمي إلى عالم الموسيقا كالعزف والوتر والنشيد؛ فالشعر في نظر الشاعر أنشودة عشق أبديٍّ حتى ولو كان مُضْنياً.. في هذه القصيدة يمكن أن نتحدث عن الصوت والحرف والمعنى ونواة المعنى والدلالة والتأويل وبداية التأويل ونهايته والشكل والنوع والقيمة.. لقد بدت القصيدة بمثابة مقطوعة موسيقية أوركيسترالية..

قال أبو عبدالرحمن: الأوركسترا: هي الفرقة الموسيقية، وهي مجموعة من عازفي آلات موسيقية مختلفة الأنواع في أغلب الأحيان؛ لأداءِ عملٍ موسيقي ما.. تحوي مزيجاً من العناصر الصوتية التي تتوافق فيما بينها.. [انظر الموسوعة العربية لحسني الحريري] النغماتُ ويكونُ فيها اللحن قادراً على إيجاد تماسك جميل بين الأصوات المختلفة، وهي عددٌ مِن النغمات عن آلاتٍ مُخْتَلَفَةٍ.. ثم قالت عن غِنَائِيَّةِ القصيدة: (امتازت فيه القصيدة بتناسق البنية الصوتية والدلالية في تداخل بين الإيقاعين الداخلي والخارجي، وسنلاحظ كيف اهتم الشاعر بهذا التوزيع الصوتي الإيقاعي في القصيدة.. وهي غنية بالمصطلحات التي تنتمي إلى معجم العِشق والعُشَّاق كقوله: الهوى، والجوى، والسهد، وآهة، والحُلُم، وعذبة المنهل، والهائم، وسكرة، والجنون: ثمَّ رسَمَتْ جدولاً قالت عنه بأنه يوضح اعتماد الشاعر على الإيقاع الداخلي للنص، من حيث جمالية الصُّورِ البلاغية، وانتقاء الحروف، والتكرار اللفظي المنظَّم، وإليكم الرَّسْمَ هيئةً وكتابة:

السين، اللام، التكرار

استوى، سنا، شمسها، ساحراً، سهده، مس، سكرة، ساهم، مسهد، فسلي، لمسة، سلي، سلسل. لها، منهل، عل، تعتلي، تجتلي، أجل، لمى، الأزل، أملي، الثمل، المقل، سلسل، سلي، جدولي، لمسة، لم أقل، ليلية، شعلي، طلعة، المصطلي، تجلى، فسلي. هي: 3 مرات

أنا: 3 مرات

كما: 2 مرتان

شاء: 2 مرتان

ربها: 2 مرتان

الهوى: 2 مرتان

أرتجي: 2 مرتان

ثمَّ علَّقَتْ بقولها: (بالإضافة إلى التكرار المنظَّم لعدد من الضمائر والكلمات؛ فهذا خلق توازناً صوتياً في علاقته بالإيقاع النفسي وعاطفة الشاعر؛ وهذا النموذج صنوٌ أصيل لشعر الغزل العذري الأفلاطوني يحقق تناغماً عروضياً موسيقياً.. وتطرح القصيدة موضوع المحبة الإنسانية الكونية التي تقترب من المحبة الإلهية في كل معانيها.. وغالباً ما يبتعد الشاعر عن الوزن الواحد والقافية الواحدة، بل اعتمد في شعره على التنويع في الأبحر الشعرية، وتعداد القوافي، وانتقاء الحروف في تناسق جميل يدل على استيعابه للنظرية الموسيقية ومكوناتها من حيث النغم والصوت «[التجليات الفنية ص28-29].

قال أبوعبدالرحمن: مدداً مدداً يا رب!!.. ولا نزال في طروحات دعوية لم تُظْهرها من مضامين وتضاعيف النص، بل لخَّصت الدعوى بأن المضمون العام للقصيدة (المحبةُ الإنسانية الكونية التي تقترب من المحبة الإلهية)، وقد زعمتْ قبل ذلك أن القصيدة صنو الشعر الغزلي العذري الأفلاطوني؛ فسبحان من وَفَّقها للجمع بين المتناقضات؟؟!!.. سبحان الله!!.. جعلتها كواوات الخدود على أصداغ المِلاح؛ وإنما هي ألف الوصل العمودية التي تريد القفز إلى وردة المعرفة في الأعالي.. إنها والله العشق المُضني للمعرفة الذوقية بالرب جل جلاله على منهج أهل الطريقة.. والقصيدة عند حورية (عشق أبدي)؟!!.. مع أن الشاعر لم يقل ذلك عن القصيدة؛ وإنما نفى الأبدية عن نفسه وشعره.. أوَ لم يَقُلْ لها: (أبديٌّ أنا؟.. لم أقل)؛ وإنما الأبدية في براهين الله، وإنَّ لهذه القصيدة كرامةً سأتناولها في مُداخلةٍ قادمة إن شاء الله تعالى، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله تعالى، والله المستعان، وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب