22-11-2014

عن التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب

نظمت منذ أيام جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ممثلة في مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز للدراسات الإسلامية المعاصرة وحوار الحضارات ملتقى «الإرهاب الإلكتروني.. خطره وطرق مكافحته».

والملتقى يدخل في إطار الأنشطة المتتالية والهادفة التي يقوم بها الدكتور عبد المحسن السميح، عميد مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز للدراسات الإسلامية المعاصرة وحوار الحضارات، وهو من الشباب السعوديين المتسلح بالعلم وذي الفكر الثاقب والغيور على مصلحة الوطن والأمة، ينظر إلى المستقبل بثبات كبير... وفي ورقة لي تطرقت إلى موضوع ضرورة تفعيل المركز الدولي لمحاربة الإرهاب. وكان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز قد تبرع للمركز الدولي لمكافحة الإرهاب بمبلغ مالي قدره 100 مليون دولار، وهذا المركز أنشئ بمبادرة منه عام 2005 وأطلق عام 2011، ويقع المركز في مقر مجموعة العمل في الدائرة السياسية بالأمم المتحدة. والمركز دعم ما يزيد عن 100 مشروع لمكافحة الإرهاب في العالم غطت أربع ركائز أساسية لاستراتيجية الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، وقد أثنت الجمعية العامة للأمم المتحدة على هذا العمل، وشجعت الدول الأعضاء على توفير المزيد من الدعم...

وتفعيل مثل هذا المركز بطريقة مثلى سيكون له تداعيات استراتيجية واستشرافية واستباقية للأحداث... فمن كان يتكهن مثلاً بميلاد فيروس خطير مثل داعش بين عشية وضحاها... كما أنّ دول العالم تعيش اليوم في حال من الارتباك الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، لا يخفى على أي متتبع لبيب. وهذا الارتباك لا يسلم منه أحد، حتى الدول الاقتصادية العظمى، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وجل دول أوروبا؛ فهناك أحداث عميقة الأثر، لم يكن أحد ينذر بها؛ وهناك تحولات متزامنة تجعل متخذي القرار في حيرة من أمرهم؛ وانتقلت سياسات الدول من الليبرالية إلى الحمائية، ومن داعية للاستقرار إلى سند للتغيير، دون نسيان الحراك الاجتماعي، الذي وسم السنوات الأخيرة، حيث تغيرت بين عشية وضحاها البيئة السياسية في تلك الدول، تاركة بعضها في علم الغيب بسبب الفوضى والمجهول، وأخرى ركبت سفينة النجاة دون أن تبصر المدى المتوسط والمدى البعيد، وثالثة بقيت في منأىً عن تلك الاحتجاجات الجارفة؛ ولكن محددات السياسات الخارجية عموماً، والنظام الاقتصادي، والاستراتيجيات التحالفية والأمنية، تغيرت في معظم الدول، أو لنقل تجندت الدول كلها لإعادة النظر في سياساتها المحلية، باتجاه استتباب الأمن في الداخل، وتحقيق التنمية لشعوبها، وإعادة النظر في سياساتها الخارجية، وتحالفاتها الإقليمية والدولية؛ وهذه الوضعية أحدثت ارتباكاً في النفوس، وقلقاً في الأذهان، وصعوبة في أخذ القرارات الحاسمة. ومن بين النتائج الأخرى هو توسعة دائرة الإرهاب. فبيئتها أصبحت معقدة موازاة مع البيئة الأمنية الدولية التي أصبحت ذات طبيعة فوضوية وغامضة، والعالم بدأ يتغير بسرعة فائقة، وبوتيرة أكبر؛ ولم تجذَّر على أرضية يمكن أن توصف بالديمومة أو الثبات؛ وبدأ منظرو العلاقات الدولية يصابون بالحيرة أكثر من أي وقت مضى، وقد تراءت إليهم محدودية نظرياتهم عن الأنظمة الإقليمية والدولية، وهي في أصلها متغيرة وانتقالية على الدوام، وتحاول تَوَقُّع نظام دولي أو إقليمي له محددات كافية لتثبيت الاستقرار...

إنّ الإحاطة بالآثار المرتقبة لهذا الوضع العربي والعالمي أمر صعب؛ ولكن صانعي السياسة في حاجة إلى وضوح الرؤية ليضمنوا إعادة تشكيل ما أسميه «البيئة الحامية للوطن»؛ وإن فهم هذه البيئة الجديدة ذات المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية - وحتى تتضح لنا الرؤية ونبتعد عن القشرة، أو الهامش، إن لم نقل النافل من الحدث - يتطلب الإلمام بالمنظومات الفرعية المتنوعة، وتبني سياسات أو استراتيجيات تركز بشدة على القشرة الحامية للدولة، والضامنة للاستقرار والازدهار ومن هنا الدور الممكن للمركز العالمي لمحاربة الإرهاب....

وفي الأيام الماضية، أطلق إرهابيون النار على حسينية في قرية «الدالوة» بمحافظة الأحساء، شرق المملكة العربية السعودية، وأدى ذلك إلى مقتل ثمانية أشخاص وإصابة آخرين، كما أدت المواجهات في ست مدن مع الإرهابيين إلى مقتل رجلي أمن، أحدهما سبق وأن أصيب في مواجهات مع سفاكي دماء البشر التابعين للقاعدة في نفس منطقة القصيم، عام 2005 ! إنه التاريخ يعيد نفسه. أناس عقولهم ملوثة، فجّار أشرار، أعمالهم من أعمال الجهال غير المبصرين، يضعون للانتهازية عناوين من الشريعة، ويقدمون لقتل الأبرياء تبريرات من الآيات، ويعطون للجشع أسماء من الدين، ويظنون أن قتل البشر هو عمل من أعمال الجهاد المقدس، فيأتون على الصغير والكبير، ويصبح البلد بذلك عرضة لأخلاقيات الجاهلية، وحل للحرمات - حتى حرمات الموتى، وتمثيل بالجثث وعقاب للرفات كما يفعل الداعشيون - للتشفي وإذهاب للغيظ الدفين.

ولد الإرهابيون أناساً عاديين، فكل مولود يولد على الفطرة، وإنما أصبحوا إرهابيين عندما تخرجوا من مدرسة التطرف، التي تربي البشر على المظالم السياسية والمذهبية والثقافية الشنيعة، والتي تبرر دائماً بالدين وتسوغ بالشريعة وتسوند بالفتاوى، وأقصد بالمدرسة الإرهابية الثقافة الوطنية المحلية، التي عجزت عن وضع سدود حامية للعقول، وأقصد بها أيضاً الخلل الموجود في الإدارة والأنظمة المعنية بالأمن، كما أعني بذلك السلطة القضائية.

ثقافة ومدارس بعض أوطاننا حاضنة لهؤلاء الإرهابيين، ويشربون من كؤوسها وهي كؤوس مسمومة تقوي فيهم الشراهة الإرهابية، وهي جهنم النفس التي لا تمتلئ أبداً، بل تقول دائماً هل من مزيد، وتجنح إلى التسطيح المبالغ فيه وتميل إلى التخطيف والتضخيم، وتقاد بالألفاظ والفتاوى الفارغة، وتتحرك بالأوهام الخاطئة، وتسير بالأحلام الضالة الكاذبة، فالثقافة المحلية ومدارسنا هي التي تولد مثل هؤلاء الإرهابيين، بمعنى أنه يجب إعادة النظر في المؤسسات الدينية وإعادة تأهيل الحقل الديني من ألفه إلى يائه، بما في ذلك إعادة تأهيل حتى القائمين بأمور الفتاوى، كما يجب إعادة النظر في المنظومة التربوية والتعليمية بأكملها....

نوعية الثقافة التي تكونت في عقول المتطرفين مردها مجتمعاتنا لا غير، وإلا لماذا ينقاد إليها البعض؟ إذا سمعت خطب من قُتل من قادتهم كابن لادن ومن ما زال على قيد الحياة كالظواهري والبغدادي وأمثالهم، فإنهم دائماً ما يجنحون إلى التلاعب بالألفاظ والتماحك بالكلمات، فيسمون العدوان كفاحاً، والقتل جهاداً، والهزيمة نصراً، والانسحاب من المعركة تكتيكاً لإعادة تنظيم الأوراق، وإلى اغتيال الآخر أياً كان، كما وقع في قرية «الدالوة»، تصفية له أو تقليلاً من أمثاله، وهكذا. ولكن المصيبة الكبرى هي عندما يتمنطق شيوخ الغلو والتطرف والإرهاب بالدين ويتمسحون بالشريعة، هنا على الدولة أن تتدخل بقوة السيف والزجر لأنهم يجعلون من أنفسهم وكلاء عن الذات الإلهية، ومتصرفين ومتحدثين باسم القوى الكونية، ووكلاء في تفسير القرآن والسنّة... ونتيجة لهذا كله تصبح المصالح الشخصية أهدافاً للدين، وتصير الأغراض الخاصة غاية للشريعة، ويصبح من يعاديهم ليس خائناً فقط بل كافراً زنديقاً، ولا عميلاً فقط بل ملحداً مرتداً. فهل نعي حقاً حجم وهول المصيبة؟ إننا مهددون في ديننا وأوطاننا، ويستغل الغرب وجل الخصوم هذا الوباء ليصفوننا بدول المتناقضات الشديدة والمتعارضات العنيفة... ومن هنا ضرورة تفعيل مثالي لهذا المركز يكون لبنة دولية في التحسيس واستباق الأحداث والتعاون المشترك خاصة في مجال المنظومة التربوية والثقافية لكل بلد للقضاء على مدرسة التطرف الخطيرة التي تأتي على الأخضر واليابس....

مقالات أخرى للكاتب