26-11-2014

الحليف الإستراتيجي الأول

قال تعالى: وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216) سورة البقرة، وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: جزى الله الشدائد كل خير أبانت لي صديقي من عدوي،

قالها في زمنه وكأنه يستشرف مستقبل التحديات التي تواجه العلاقات الإنسانية في المجتمعات، وجاء في المثل العربي القديم: رب ضارة نافعة. والأحداث المتسارعة التي تتحقق اليوم في مجتمعنا داخلياً وخارجياً على موعد مع هذه الشواهد المتجددة.

كثيرة هي الأزمات التي مرت بنا وما زالت، وتتفاوت في أنواعها ودرجاتها وأهدافها ونتائجها وسبل مواجهتها، ونحن في زحمة التفاعل مع هذه الأزمات نتذاكر هذه الشواهد، ليس للتسلية والتعزية، وإنما لشحذ الهمم وجمع العزيمة وربط الجأش والمواجهة المدروسة.. ويتعاظم الاهتمام بها عندما تستهدف الأمن القومي السعودي ووحدة الصف واللُحمة الوطنية.

واللُحمة أو الوحدة الوطنية في أبسط مدلولاتها هي ارتباط الفرد بمجتمعه انتماء وولاء له، ويترجمه في تعبيرات لفظية وغير لفظية وفعلية بمختلف المناسبات السارة وغير السارة التي يعيشها وطنه بدون منّة أو انتظار جزاء أو إحسان.. والأحداث الداخلية المؤلمة التي تطالعنا بها وسائل الإعلام المختلفة تستهدف أمننا، وعلاقاتنا ببعضنا، بصرف النظر عن أطيافنا، لأن الحاقدين على وطننا يعلمون يقيناً أن البداية الفعلية لتمزُّقنا هو ضربنا بعضنا ببعض متخذين المذهبية أو الطائفية سبباً في ذلك، استناداً على فرضيات مبنية على خبرات سابقة لهم في المجتمعات التي حدثت فيها انتفاضات شعبية، لكنهم نسوا أن الإنسان السعودي الذين عوّلوا على خيانته يختلف عن غيره، فقد أثبتت الأحداث الماضية البعيدة والقريبة أنه يضحي بنفسه وماله وولده لأجل وطنه.

فقد دحض أهل الدالوة بخاصة والإحساء عامة هذه الفرضيات بردود أفعالهم السارة والتي لطموا بها أوجه الحاقدين على لحُمتنا الوطنية، مؤكدين لهم بأن لا مذهبية تفرّق السعوديين عن بعضهم وأنهم على قلب رجل واحد في كل الظروف وأنهم مواصلون ما بناه الآباء والأجداد.

وهذه الحادثة ليست هي الأولى من نوعها التي يثبت فيها الإنسان السعودي ارتباطه بوطنه، فيزخر التاريخ الحديث بالقصص التي تستحق أن تعرفها أجيال النشء والشباب، ومن الأمثلة:

- تطوع المواطنين من مختلف الأعمار والمهن في مراكز التدريب تحت إشراف وزارة الدفاع السعودية، كما تطوعت المواطنات في أعمال الإسعافات الأولية في المستشفيات والقطاعات الطبية والتمريض إبان حرب الخليج الثانية 1990، وكانت ملحمة وطنية مشرفة للأجيال المتعاقبة.

- والاستجابة السريعة من السعوديين من مختلف الأعمار والمهن لدعم حملات التبرع التطوعية التي أطلقها قادتهم؛ لنجدة المسلمين الذين تضرروا من آثار حروب أو فيضانات أو كوارث صحية.

- ولهف المغردون والمغردات في السعودية للدفاع عنها من خلال لطم أصحاب الحسابات التي تتبنى أسماءً وصوراً مزيفة، والتي تظهر في تغريداتها العداوة لها مرة بطريقة صريحة، ومرة أخرى بطريقة مبطنة.

إن التضحية ليست كثيرة على وطننا الغالي، كما أنها ليست مستغربة على الإنسان السعودي الأصيل فهو وطن يتألف من تركيبة سكانية متنوعة لا على أساس مذهبي وإنما على أساس ديموجرافي.

إن ما يميز حادثة الدالوة هو أنها أعطت دروساً للقاصي والداني داخل المملكة العربية السعودية وخارجها بأن السنّة والشيعة على قلب رجل واحد وأنهم شركاء في تنمية وتطور بلادهم، وأنهم الأجدر في مواجهة تحدياته المعاصرة. وهما يتقاطعان في حقوق وواجبات محل الاعتراف الشعبي والرسمي في الأزمنة الماضية والحاضرة والمستقبلية، ويُنسب إلى مختلف أطيافهما انطلاقة عجلة التنمية الحضارية وتطورها.

أسهمت عوامل مختلفة وفق مجالها وصعيدها في تحديد أنماط التفاعل ومستوياتها مع بعضهما، واستفادت جهات مغرضة على مستوى دول وتنظيمات متطرفة في تهييج التفاعل غير المرغوب فيه؛ وذلك لتغييب تحقق الوفاق والسلام بينهما، وهي التي لا تتردد في استغلال كل الفرص الممكنة وغير الممكنة مجندة كل إمكاناتها؛ لشحن البسطاء منهما؛ ولتشكيل وتذكية البغضاء والعداوة لدى العموم.

ولقد لعبت وما زالت هذه الجهات على زاويتين، ففي الوقت التي تقنع أهل السنّة في السعودية بأن الشيعة جماعة عبثية دموية لها «مطامع إستراتيجية» يلزمها القمع لتسكن وتهدأ، تقنع في الوقت نفسه أهل الشيعة بأن السنيين لا يتقبلونهم ويرفضون «مطالبهم» وإشراكهم في عجلة التنمية في المجتمع.

لقد أدرك العقلاء من أهل المذهبين بأن تثمين المصلحة العامة الدائمة على المصلحة العامة المؤقتة يحقق عوائد متنوعة على مستويات الفرد والجماعات والمجتمع، وهذا واضح ولا يخفى إلا على متربص من مشاركة الشيعة في التصريح برفض حادثة الدالوه بالإحساء ومشاركتها في ترديد مقولة التلاحم والحب للوطن، وقيام عدد من وجهها في التعزية ضمن وفد الأحساء لأسر الشهيدين، وتناقلتها وسائل الإعلام مبتهجة بهذه الاستجابات.

صدقاً إن الإنسان السعودي هو الحليف الإستراتيجي الأول لوطنه، فهو الذي لم ولن يدير ظهره عنه في مختلف الظروف السارة وغير السارة، وهو رأس المال الحقيقي لقوة وطنه، وهو صمام الأمان له متى دعت الحاجة إليه.

لم يأت تصريح هاشمي رفسنجاني بأن سب الصحابة سبب في وجود الجماعات المتطرفة، ولم تأت زيارة الرئيس العراقي للسعودية إلا بعد أن أكد الإنسان السعودي قوة لحُمته الوطنية وأنها خط أحمر لا يقبل المساس به.

ولكي يستمر تحقق دروس الانتماء والولاء للوطن يجب على الجميع الاحترام المتبادل لتعاليم المذاهب الدينية، فإذا كنا ندعو إلى الحوار مع الأديان الأخرى، أليس من باب أولى أن يتحاور ممثلو الطوائف الأخرى للمصلحة الوطنية الآنية والمستقبلية.

malnooh@ksu.edu.sa

كلية التربية - جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب