28-11-2014

المريض أولاً ... ولكن من يأخذ بيده؟

شعار كل نظام صحيّ في هذا العالم - ونظامنا أيضاً - هو أن المريض محور اهتمامه، وأن جميع الإمكانات مسخَّرة لخدمته. وربما نترجم هذا الشعار باستعارة عجز البيت المشهور لأبي فراس الحمداني: (...»له» الصدر دون العالمين أو القبر).

وحقاً إذا لم يكن للمريض مكان الصدارة في النظام الصحي فإن العواقب قد تكون مُهلكة.

غير أن الذي يقود المريض إلى مكان الصدارة ليس المبنى العظيم ولا الأجهزة المتطورة ولا الهياكل التنظيمية - على الرغم من أولوية وجودها كموارد أساسية - بل هو مقدِّم الخدمة في المرفق الصحي من خلال الاهتمام به واحترامه وإحاطته بجوّ التعامل الإنساني. إن المريض في شكواه، إنما يسأل من لديه المقدرة المهنية أن يعطيه العلاج الناجع، فهو على هذه الحال الطرف الأضعف. فما هو الموقف الذي سيتخذه الطبيب (أو أيّ أحد من مقدمي الخدمة): هل سينظر للمريض على أنه إنسان يستعطف معروفاً، أم إنسان يطلب حقاً من واجب مقدمي الخدمة إعطاؤه؟ وأنا لا أقصد هنا الحقوق القانونية وتطبيق معايير جودة الرعاية الطبية - بما فيها الإخلاص والإتقان في الفحص والعلاج - فهذه قضية تفرض نفسها. القضية هنا هي: كيف سيكون التعامل مع المريض من حين إطلالته إلى أن يحصل على الخدمة الصحية. ما الذي سيجده من موظفي الاستقبال والتسجيل والدخول: بشاشة وإيضاح، أم عبوس وردود (تلغرافية)؛ والمواعيد:هل تُعطى وفقاً لجداول الكومبيوتر فقط، أم لحالة المريض ونوع المرض أيضا؟ وفى الموعد: هل كل شيء مرتب وجاهز، أم يفاجأ المريض بعدم حضور الطبيب للعيادة (أو الفني لمكان الفحص) أو تأخره، أو بتعطل جهاز ما؟ وهل مكان الانتظار أو دورة المياه لائق؟ وعند تعذرتوفير خدمة مطلوبة، هل تتم مساعدة المريض بالبحث عن فرص بديلة؟ وعند مقابلة الطبيب: هل يحظى بمحادثة مصغية واهتمام بحال المريض، أم بسؤال مقتضب والاكتفاء بمطالعة نتائج المختبر والأشعة؟ وبعد الدخول للمستشفى: هل يعرف المريض ومرافقه - إن وجد- طبيبه المعالج بالاسم، وهل يراه شخصياً ويسمع منه عن حالته؟ وهل يخاطب الممرّضون مرضى القسم بشكلٍ ودّيّ عند تنفيذ تعليمات الطبيب، ويهتمون بنظافة وترتيب الغرفة والسرير؟ وفي يوم الخروج هل يتلقى المريض التعليمات والأدوية وموعد المراجعة أو التحويل في أول يوم الخروج، أم ينتظر إلى نهاية اليوم؟ هذه بعض من حقوق المرضى التي قد لا تكون مكتوبة ولكنها ذات تأثير قويّ على نفسيّة أي مريض. ونتذكر هنا معالي الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - وزير الصحة عام 1403هـ، وقد كان صارماً في مسألة احترام المريض وإنسانيته. فقد وجد المرضى في عهده حفاوة في الاستقبال، بعد أن كانوا ينتظرون طويلاً إلى أن يأذن لهم الفرّاش بالدخول. ولم يكن غازي القصيبي مبتدعاً لأولوية الاهتمام الإنساني بالمرضى، فإن الجهات المقدة للرعاية الصحية والجمعيات والهيئات وكذا الأنظمة الصحية تؤكد على هذا المبدأ، لكن طريقة المسؤولين تختلف. وعلى سبيل المثال وجّه معالي الدكتور حمد المانع بتعميم وتطبيق شعار (المعاملة الحسنة لا تحتاج إلى إمكانات). وأنشأ معالي الدكتورعبدالله الربيعة بالوزارة وكل مديرية إدارة لحقوق وعلاقات المرضى؛ وفي المستشفى لوحات بارزة موضح بها حقوق المرضى الشخصية والمعنوية. مع ذلك تلاقي بعض التعليمات ما يعيق تطبيقها - على الرغم من سلامة القصد والرغبة في المساعدة. فالمريض من ناحيته ليس له من همٍّ إلا الحصول على بغيته - أي الموعد أو المقابلة أو الإسعاف .....إلخ. - ولا يهتمّ بحقوق أخرى يخشى أن المطالبة بها تؤثر على حصوله على الخدمة التي جاء من أجلها. ومقدم الخدمة من ناحيته يرى أن واجبه يبدأ وينتهي بأداء ما هو ملزم به من عمل، أما طريقة الاستقبال أو المحادثة أو طول الانتظار أو إظهار الاهتمام الشخصي...إلخ - فهي في ظنه أمور ليست عنصراً في الخدمة أو من شروط الوظيفة التي يشغلها. ولا عجب في هذا الظن، فإن مبادئ التعامل مع المرضى يؤكّد عليها بالتعاميم واللوحات للإحاطة، لكن لا يتبعها تدريب على أدائها ولا متابعة لتطبيقها ولا محاسبة على التقصير فيها. وفوق هذا كله فإن كثافة استخدام تقنية المعلومات الحديثة لم يكن له أثر إيجابي على العلاقة الإنسانية بين المريض ومقدمي الخدمة. ولكن لماذا الحاجة لمثل هذه العلاقة في بيئة تسودها التقنية الحديثة؟ ألم تسهّل هذه التقنية الكثير من الإجراءات وتختصركثيراً من الوقت وتجلب للعاملين وللمرضى مزيداً من الراحة ومن الدقة والقدرة والسرعة في الاستقبال والمواعيد والتشخيص والعلاج؟ نعم، لا شك في جدوى هذه المزايا. لكنها هي نفسها ألْهَتْ مقدمي الخدمة عن الاهتمام بالعلاقة الإنسانية مع المريض، وزاد الاتكال عليها فصارت تقوم بدور الوسيط بين الطرفين، وقد يؤثّر ذلك على نتائج الرعاية المقدّمة. فالعلاقة الحسنة والتعامل اللطيف يزيلان التوتر من جو المقابلة بين المريض ومقدمي الخدمة - وعلى رأسهم الطبيب، ويُشعِران المريض بالاطمئنان والرضا والامتنان لما يقدم له من خدمات، وذلك كله يزرع الثقة والألفة في نفس المريض، ومن ثَمّ القبول بما يتلقاه من تعليمات أو إجراءات علاجية؛ ومعلوم أن هذا عامل نفسيٌّ مهم يؤثر إيجاباً على نتيجة العلاج، ومؤشّر على حصول الاستفادة من الخدمة الصحية. إن إدراك الجهات الصية لأهمية هذه الجانب في الرعاية الصحية يتضح -على سبيل المثال- من القيام بتنفيذ مشروع ريادي في مدينة الملك سعود الطبية (الشميسي) لتوعية وتدريب العاملين على الأسلوب الأمثل للتعامل مع المرضى والاهتمام العملي بحقوقهم الشخصية والمعنوية.

من غير شك يسعى كل مرفق صحي إلى أن يوفّر للمرضى الإمكانات والإجراءات اللازمة للحصول على الخدمة؛ لكن ذلك كله لا يعوّض العلاقة الجيدة مع المريض - وهو المستفيد النهائي. وبينما تكلّف الإمكانات المبذولة الملايين، فإن بناء علاقة جيدة مع المريض لا يكلِّف شيئاً. أما إهمالها فقد يؤدى إلى عدم تقبّل المريض أو عدم ثقته في التشخيص والعلاج، ومن ثَمّ إلى إهدار تلك الملايين بسبب فشل العلاج، أو اللجوء إلى مقدم خدمة آخر، كما يحصل غالباً عندما يفقد المريض الثقة في خدمة مرفق حكومي عام، فيتوجه إلى القطاع الخاص أو يذهب بالواسطة إلى متخصص في مستشفى حكومي آخر.

إن مقدّم الخدمة في المرفق الصحي هو الذي يجب أن يأخذ - من خلال التعامل الراقي - بيد المريض ليحتل مكان الصدارة ويحصل على الخدمة الجيدة.

مقالات أخرى للكاتب