28-11-2014

رسالة أبي عبدالله الصغير

أبو عبدالله الصغير، آخر حكام بني الأحمر الذين حكموا غرناطة, وآخر حاكم في إسبانيا الإسلامية, غادرها بعد قصة محزنة مشهورة كان لوالدته دور في أحداثها, وهي التي قالت له ذلك البيت من الشعر الذي ظل خالداً:

ابكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً

لم تحافظ عليه مثل الرجال

نعم, لقد ضاعت الأندلس، وانتهت على يد هذا الحاكم سيئ الحظ, ليرحل إلى فاس بعد أن رفض العرض الذي قدماه إليه فرناندو وإيزابيلا للبقاء معززاً مكرماً في غرناطة المستولى عليها, ولم يرغب هذا الملك المنكوب أن يذهب دون أن يسطر ما يجول بخاطره, وهو يسلم مفاتيح آخر معاقل الإسلام هناك إلى خصمه اللدود فرناندو, فأرادها قطعة نثرية بليغة تبقى خالدة مدى الدهر.

والملوك في سالف الدهر, اعتادوا أن يجلبوا إليهم الأدباء والشعراء ليكتبوا لهم خطبهم ورسائلهم, وإن كان منهم من عنده علم غزير مثل عبدالملك بن مروان, وقد استنجد أبو عبدالله الصغير بوزيره وكاتبه محمد بن عبدالله العربي العقيلي, ليكتب على لسانه إلى الحاكم الوطاسي في فاس, ما يجول بخاطره, وما يبرر موقفه, فكتب شعراً ونثراً بليغاً رائعاً, وكيف لا والعقيلي من أعلام الأدب والبلاغة في عصره.

وقد سمى تلك الرسالة «الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الأمام سلطان فاس» ومن نثره «على أني لا أنكر عيوبي، فأنا معدن العيوب, ولا أجحد ذنوبي، فأنا جبل الذنوب، إلى الله أشكو عجزي وبجري, وسقطاتي وغلطاتي...».

بيد أنه يدفع عن نفسه تهم التفريط والزيغ والخيانة، ويقول:

«فمثلي كان يفعل أمثالها, ويحمل من الأوزار المضاعفة أحمالها, ويهلك نفسه ويحبط أعمالها، عياذاً بالله من خسران الدنيا، وإيثار الجاحدين والمعتدين، قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. وايم الله لو علمت شعرة فؤادي تميل إلى تلك الجهة لقلعتها, بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطعتها. غير أن الرعاع في كل وقت وأوان. للملك أعداء وعليه أحزاب وأعوان... وأكثر ما تسمعه الكذب، وطبع جمهور الخلق إلا من عصمه الله إليه منجذب، ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار, ورمينا بما لا يرمى به الكفار, فضلا عن الفجار، وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمرو، مالكم منه حفظ الجبار... أكثر المكثرون, وجهد في تعثرنا المتعثرون, ورمونا عن قوس واحدة, ونظمونا في سلك الملاحدة. أكفراً أيضاً كفراً, غفراً اللهم غفراً. وهل زدنا على أن طلبنا حقنا ممن رام محقه ومحقنا, فطاردنا في سبيله عُداة كانوا لنا غائظين، فانفتق علينا فتق لم يمكنا له رتق، وما كنا للغيب حافظين».

ثم يقول أبو عبدالله، «لئن كان قد نزل به القضاء فثلّ عرشه, ونكس لواؤه, وملك مثواه, فهل مثل من سواه في ذلك. ولئن كان مروعاً مصير غرناطة ومصير ملكها وأنجادها, فإنها لم تنفرد بين قواعد الإسلام بذلك المصير المحزن. ألم يقتحم التتار بغداد, عروس الإسلام ومثوى الخلافة, ومهد العلوم، ويستبيحوا ذمارها وحرمها, ويسحقوا الخلافة وكل معالمها ورسومها؟ وماذا كانت تستطيع غرناطة إزاء قدر محتوم، وقضاء لا مرد له؟ «والقضاء لا يرد ولا يصد، ولا يغالب ولا يطالب, والدائرات تدور، ولا بد من نقص وكمال للبدور، والعبد مطيع لا مطاع، وليس يطاع إلا المستطاع، وللخالق القدير جلت قدرته، في خليقته علم غيب، للأذهان عن مداه انقطاع».

ثم يعطف إلى التجائه إلى ساحة السلطان بقوله: «وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقاً، وجرعتنا من صاب الاوصاب كأساً دهاقاً، ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب، المتفتح حين سدت الأبواب، ولم نلبس غير لباس نعمائكم، حين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب, والى أمه يلجاُ الطفل لجأ اللهفان, وعند الشدائد تمتاز السيوف من الأجفان, ووجه الله تعالى يبقى، وكل من عليها فان».

يا لها من جملٍ مأثورة، ودررٍ منثورة, ورسالة إماطة اللثام عن آلامٍ مستورة, ففاضت بالمكنون, من ملك مكلوم.

ولكل أجلٍ حساب, ونعوذ بالله من سوء العقاب, فكلٌّ يحصد ما زرع, ويجني ما خفض ورفع.

مقالات أخرى للكاتب