قصة قصيرة

شريان الوادي

للنخل والماء العذب والزرع والأغنيات أسطورة عشق ممتدة في رمل هذا الوادي تحكيها عروق الماء المندسة من لظى الأصيل في أحشاء الجبل وأعماق السهل.. حين تنفر فوق الثرى في أواخر فصل الخريف.. ظلت جبال السروات تصب الحياة في شرايين الصحراء على مدى العصور والآماد.. الطيور التي كان لها وطنا هنا وملاذا تسكن إليه في بدايات الصيف كانت تحكي نعماء الجبال على جنان الصحراء.

تأسف الأعرابي وجادت إحدى عينيه بدمعة يتيمة لمعت كالماسة في وجنته اليمنى ثم سقطت على حجر ناري لترسم ندبة حمراء عليه حين تذكر أيام صباه يتحرى الظباء في ضحاءات القيظ على أطراف صحراء تخلو من سكانها في هذا الوقت من العام..

تنهد ابن الثلاثين بعد تنهيدة وهو ينظر إلى بندقيته القديمة البالية معلقة على عمود السدر في منتصف بيت الشعر ذا السدو والغرائر.. كان ينظر إلى داخل خيمته وهو يستظل سدرة وارفة الظل يتقاسم ظلها مع جدول الوادي الذي لا ينقطع حتى مع اشتداد الصائفة..

ربما كانت تنهيدته الغائرة بسبب قساوة الأرض الصخرية التي استبدل بها نعومة رمل الصحراء وحرارة شمسها وحين يتذكر برودة الماء الجاري والظل الوارف ونعومة النسيم البارد يتعلل بها عن رقة الرمال وفسحة فضاء الصحراء وصفاء ليلها…

أفاق فلاح من ذكرى تنهيدة جده التي استعادها حين رأى بطحاء الوادي جافة قاحلة تذروها الرياح في كل اتجاه.. ارتاع حين صرخ ولده الصغير وهو يعرك عيناه أمام صنبور الماء المتكلس قائلا أبي الماء يحرقني في عيني لن أتوضأ أبدا.. لا بأس يا ولدي حاول أن تغمض عينيك عندما تغسل وجهك.. لا فائدة يا أبي.. لن أغسل وجهي أبدا وسأكتفي بالشرب فقط من خزان المياه المحلاة.

كثيرا ما يجد مشقة في إقناع أولاده على الاغتسال والوضوء من هذه المياه التي تفوق مياه البحر ملوحة ويحاول علاج أيدي عائلته وأرجلهم من التشقق (المشق) الذي يصيبهم خاصة في فصل الشتاء.. (قطع شريان الحياة عن الصحراء بالسدود هو السبب في انحسار المياه)..هذه المقولة تتردد دائما بين أناس هذه البلدة يلقون باللائمة على السد السطحي الذي يعتقدون أنه سبب حبس المياه عنهم.

منصور الجار والصديق المقرب لفلاح حين يسمع هذه المقولة المعتادة يسر بها ويؤيدها قال مفندا لها بأن السدود السطحية لا تصلح إلاعلى الأنهار الجارية أما الأودية المطرية لايصلح لها إلا السدود الجوفية أو تترك تسيح في الفلاة فمن خلقها أعلم بها.. الشيبان والعجائز حين يصعقون في أبنائهم للنهوض لصلاة الفجر.. يقولون إن كسلكم وتقاعسكم سبب هذه اللعنة التي جثمت في حلق الوادي..

خطيب الجمعة دائما ما يحذرهم في خطبه المجلجلة من المعاصي والفسق والفجور وهم ينظرون إليه في ذهول ورعب شديدين متهمين أنفسهم وأبناءهم ومرتابين من بعضهم البعض فرغم أن أي منهم لم يشاهد الآخر يفعل معصية ظاهرة إلا أن الشكوك تساورهم بأن أبنائهم باتوا يدخنون (المخسي) وربما بعضهم قام بتركيب المنكر النكير( الدش) سرا…

سمع فلاح اليوم عددا من الجماعة في السوق يتحدثون عن مياه الصرف التي تزج في أعالي الوادي وشائعات كثيرة تثار حول الخبر ولم يكن منه إلا أن حوقل وتمتم بكلمات فيها شيء من الاشمئزاز وفرك جبهته واستغفر.. نفض سعد بن فلاح الصغير بطانيته بعد أن أغرقها والده بالماء واغرق وجهه بنضحات متتالية لإيقاظه لصلاة الفجر وقام يتهادى ليتوضأ فتح الصنبور وضع يده ليغسلها ولم يجد الماء حاول أن يحرك الصنبور المتكلس بالأملاح لكن لا فائدة..

خرج من المنزل في أثر والده الذي ضرب بيده الأرض عدة مرات ومسح يديه ووجه وتابع إلى المسجد ليلحق الصلاة جماعة قلد سعد والده ودلف في إثره.

- سعود السمرة