30-11-2014

مأزق الانتخابات المصرية يتكرر في الانتخابات التونسية..؟!

كانت (تونس) هي بلد ربيع الحرية الحقيقي (الأول).. بثورتها في الرابع عشر من شهر يناير من عام 2011م، التي اندلعت.. في أعقاب انتحار مواطنها الشاب (محمد بو عزيزة) بحرق نفسه حتى (الموت) ، بعد أن ضاقت به سبل العيش الكريم..

.. حتى عن السماح له بوضع عربته لبيع الخضروات والفواكه.. والتي يعيش هو وأسرته من عوائدها المتواضعة.. عيشة الكفاف في أحد المواقع الرائجة في قريته (سيدي أبوزيد).. بل وبعد أن تقدم معترضاً على حرمانه من ذلك (الحق) فتلقى بدلاً من الاعتذار أو السماح له الذي كان يتوقعه.. صفعات على وجهه.. جعلته ينسى (إيمانه) الذي تربى عليه في لحظة، ليقوم بإشعال النار في نفسه.. خلاصاً من حياة لم تعد تطاق، لتثور تونس كلها لـ(حقه) الضائع ولـ(كرامته) المُهدرة.. وهي تبكيه، وتبكي نفسها وشبابها، ليلحق (ربيع الحرية) بمصر بعد أحد عشر يوماً -في الخامس والعشرين من يناير.. من ذات العام-، رغم جاهزيتها لـ(الثورة) على مبارك وحزبه وفساده ونهبه.. هو وعصابة لجنة السياسات التي كان يتولاها خليفته -الذي كان يتم إعداده لحكم مصر (جمال مبارك)-، إلا أن (ربيع الحرية).. الذي فاجأ حدوثه الدول الكبرى وبعض الدول الصغرى، وحطم اعتدادها بـ(معرفة) كل ما يجري على ظهر المعمورة.. أيقظ سيناريوهاتها النائمة، والتي كان في مقدمتها سيناريو ذلك الجنرال الأمريكي، الذي قال بعد غزو العراق واحتلاله عام 2003م.. واثقاً مطمئناً مزهواً بـ(معلوماته) الاستخباراتية الدقيقة.. بـ(أن المسألة.. هي ثماني سنوات.. وثمانية تقسيمات)..!! ليتم (تمطيط) ذلك الربيع.. ليمتد إلى ما بعد السودان إلى كل من ليبيا وسوريا، وقد كان مقدراً أن يكون اليمن (سادسها)، لولا (المبادرة الخليجية) ذات الطبيعة الأممية.. التي أخرجتها من دائرة ذلك (الربيع) أو (التقسيم).. والذي تحول إلى خريف حقيقي.. ذبل معه ومات فيه كل شيء!.

إلا أن (مصر) وبحكم عمقها الحضاري، ورسوخ (مفهوم) الدولة في بنيتها.. استطاعت أن تنقذ نفسها من قبضة (الإخوان)، الذين تسلقوا ثورة الخامس والعشرين من يناير بشعاراتهم البراقة ونواياهم الخبيثة.. بـ(ثورة) الثلاثين من يونيه الكاسحة، وبـ(خارطة المستقبل) التي أفرزتها قياداتها الوطنية الواعية.. لتشق بها (مـصر) طريق عودتها إلى ينابيعها الأصيلة: حضارة وثقافة ووسطية دينية لا تجارى.

* * *

لكن (تونس) بلد الربيع الأول لـ(الحرية).. بلد الجمال والبساطة والسياحة.. بلد ذلك (الكهل) التونسي الذي كان يهتف طوال الأماسي في (نهج) الحبيب بورقيبة: (هرمنا.. هرمنا).. اعتراضاً على طول انتظاره لـ(الحرية) وترحيباً بقدوم ربيعها.. وبلد (أبي القاسم الشابي) وصرخته الشعرية المدوية في ثلاثينات القرن الماضي:

(إذا الشعب يوماً أراد الحياة

فلابد أن يستجيب القدر

ولابد لليل أن ينجلي

ولابد للقيد أن ينكسر

فمن لم يعانقه شوق الحياة

تبخَّر في جوها واندثر)

... التي كان يرددها بلدا ربيع الحرية في أيام احتفالاتهما الأولى بـ(نجاحهما) في إسقاط (بن علي) تونسياً في سبعة أيام، و(مبارك) مصرياً في أحد عشر يوماً.. وكأنهما أحجار على رقعة (الشطرنج)، لم تنج فيما بعد من الوقوع في قبضة (النهضة) المعادل التونسي لـ(إخوان) مصر.. إلا أنه يختلف عنه في أجندته داخلياً وإقليمياً ودولياً، فهو لا يريد (التمكين) لحزب النهضة ورجاله وأتباعه وحدهم، وهو لا يدعو لتغطية تماثيل الشوارع والميادين بـ(الشمع).. مخافة الفتنة، أو لإقامة شرطة دينية.. تتَّبع الناس وتحصي عليهم أنفاسهم وتراقب ملابسهم وملابسهن وتمنع الخطيب من مجالسة مخطوبته حتى ولو كان على (الكورنيش).. أمام الناس والمارة، وهو لم يقدم وثيقة استرحام لـ(إسرائيل) ببقاء معاهدة كامب ديفيد -على ما هي عليه- والتطبيع الفعلي معها.. لترضى عنه، وهو فيما أعلم.. لم يناد بعودة (الخلافة الإسلامية).. التي أنهاها عام 1923م استبدادها ومظالمها وعنصريتها العرقية في زمن لم يعد فيه ممكناً تقسيم العالم (دينياً).. بعد أن تقدمت (المواطنة) كـ(جامع) للأمة -أية أمة- على اختلاف مذاهبها وطوائفها.

* * *

على أيّ حال.. وفي ظل أجواء البشر والتفاؤل، والإخلاص والنقاء الثوريين التي سادت تونس.. فتحت ثورة الرابع عشر من يناير أبواب الانتخابات التشريعية لـ(كل) التوانسة.. فكان أن فاز النهضاويون المنظمون دعوياً وحزبياً بثلث مقاعد أول برلمانات الثورة، وهو ما أدى بـ(الغوغائية) السياسية لـ(تزكية) السيد (المنصف المرزوقي) ذي التوجه الإسلامي لـ(سدة) الرئاسة التونسية المؤقتة، التي امتدت به لثلاث سنوات.. لتغطية كامل سنوات المرحلة الانتقالية، وإلى أن يتم الاتفاق بين المكونات السياسية الحزبية والنقابية.. والتي تأتي في مقدمتها (نقابة الشغل) التونسية أكبر النقابات وأهمها وأوسعها نفوذاً، والتي حملتها مكانتها الجماهيرية.. لأن تتصدر المشهد السياسي الثوري عند اضطرابه.. بدعوة الأطراف الحزبية كلها إلى (حوار وطني) أسفر عن تحديد يوم الثالث والعشرين من الشهر الحالي -نوفمبر- ليكون يوم إجراء الانتخابات الرئاسية.. ليدخلها صاحب الأغلبية البرلمانية رئيس حزب (نداء تونس) الباجي قائد السبسي و(المنصف المرزوقي) الإسلامي المنتهية ولايته المؤقتة، وإلى جانبهما عشرين مرشحاً لم يصل أي منهم إلى 10% من أصوات الناخبين.. عند فرز الأصوات كاملة، وهو ما أدى.. إلى الإعادة -أو جولة ثانية- بين أكبر فائزين بالدورة الأولى: الباجي السبسي بـ39,46% من الأصوات، والمنصف المرزوقي بـ33,43% من إجمالي أصوات الخمسة ملايين ناخب وناخبة تونسية والمدعوم إسلامياً من قبل حزب (النهضة).. ليتكرر (تونسياً) المشهد المصري الانتخابي الأول بين (أحمد شفيق) أحد وزراء الحزب الوطني و(محمد مرسي) أستاذ الهندسة والقيادي في جماعة الإخوان.. عندما وجد المصريون أنفسهم بين خياري: (الفلول) أو (الإخوان).. فهربوا من (الفلول) إلى (الإخوان)، الذين لم تجر تجربتهم من قبل.. على أمل أن يكونوا أفضل من عودة (الفلول).. ولكن خاب ظنهم واكتشفوا سريعاً (ورطتهم) في انتخاب (مــرسي) بأقل من ستة ملايين صوت من واحد وخمسين مليون ناخب يملكون حق المشاركة، فلم ينقذهم من (ورطتهم) هذه غير ثورة الثلاثين من يونيه، وهو أمر نتمنى أن لا يدخل فيه الأشقاء الأعزاء التوانسة.

* * *

لقد بدأت مناورات (النهضة) بالإعلان عن أنهم لن يقدموا مرشحاً لـ(الرئاسة)، وأنهم سيقفون على الحياد بين المرشحين (الرئيسيين).. في العلن.. حتى يفوزوا بـ(حصتهم) في الحكومة الائتلافية التي سيقود تشكيلها حزب (السبسي) نداء تونس، بينما كانوا يسربون سراً لـ(المنصف المرزوقي) بأنهم سيدعمونه في الجولة الثانية.. مطمئنين بذلك إلى أنهم أرضوا الاثنين معاً: (السبسي) و(المرزوقي) وسيكونون الفائزون.. في كل الأحوال وهذا هو الأهم بالنسبة لهم.

إن (تونس).. بلد البحر والشواطئ والسياحة والصناعات التقليدية والموسيقى والغناء والمسرح ومهرجانات (قرطاج) الموسيقية والغنائية والسينمائية الباذخة التي يحضرها الآلاف من الناس.. ويتم تصديرها لعشرات المحطات التليفزيونية والفضائية.. كـ(مصر)، لا تحتمل رئيساً (مؤدلجاً)، تتقدم أيديولوجيته عنده على (مواطنته).. فـ(تونس) هي العاصمة العربية (الثالثة) لـ(الفن)، وللموسيقى والغناء والمسرح وعروضه العربية والدولية بعد (القاهرة) و(بيروت) في زمانها (!!)، والتي يقصدها سواح العالم طوال العام.. ويحج إليها السواح العرب كما يحجون إلى (القاهرة) و(بيروت) في صيف كل عام.

ولذلك.. فإنني أتطلع لأن تتضاعف أعداد الناخبين والناخبات.. من الـ62.9% إلى السبعين والثمانين بالمئة في الجولة الثانية سواء كان موعدها في الأسبوعين الأولين من شهر ديسمبر القادم.. أو في نهايته، وأن تصوت لصالح (الباجي قائد السبسي) رئيس حزب (نداء تونس) ومرشحه.. حتى وإن تم استوزاره من قبل في إحدى وزارات عهد (بن علي).. حتى لا تتكرر مأساة ما حدث في (مصر).

مقالات أخرى للكاتب