د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
فلم تكد سلاسل التوريد العالمية تهنأ بأشهر عدة من تعافيها من الآثار المدمرة التي لحقت بها بسبب جائحة كورونا، حتى تعرضت لتحد جديد وهو الحرب الروسية الأوكرانية، ما يعني أن العالم أمام تعثر سلاسل الإمدادات، أو ينذر بموجة غلاء نتيجة ارتفاع أسعار الشحن التي ارتفعت 500 في المائة لدى بعض الدول مثل تونس، وإعلان الموانئ العالمية عن زيادات تتراوح بين 6 - 10 في المائة على رسوم عبور السفن والشحن والخدمات اللوجستية، ما جعل شركات التأمين أيضًا تقرر رفع أسعار وثائق التأمين على عمليات الشحن وسلاسل الإمداد.
أصبحت هناك ثغرات مكشوفة في سلاسل الإمدادات التي تعيق التوريد المستدام، في وقت تسارعت فيه وتيرة الأحداث العالمية المؤثرة على سوق سلاسل الإمداد، والقضايا الجيوسياسية، وتضخم الأجور في البلدان منخفضة التكلفة، تعيد الشركات هيكلة سلاسل التوريد التقليدية الخاصة، ويبحث المصنعون عن جعل سلاسل الإمدادات والتوريد مستدامة، وغير قابلة للتأثر أمام أية مخاطر مستقبلية قد تعوق أو تؤخر انتقالها إلى المصانع الأخرى أو إلى الأسواق الاستهلاكية.
هناك ثورة لإعادة تشكيل سلاسل الإمداد، مثل بناء مستودعات في أكبر الأسواق، تقليل المركزية في التصنيع، خفض عمليات نقل السلع الأولية، تنويع مصادر الإمداد، لكن هناك مخاطر من إعادة التشكيل ككلفة أعلى على الشركات، تأثر جودة المنتج الواحد بين دولة وأخرى، التباين في الحوافز الضريبية بين الدول، والمهم من إعادة هيكلة سلاسل الإمداد تهدف في جزء منها إلى تقليل تحرك السلع من أسواق إلى أسواق عبر تصنيعها داخل الأسواق الرئيسية.
هي مرحلة بعدما اجتازت الشركات الصناعية موجة العولمة خلال السنوات الأربعين الماضية، وأنشأت سلاسل توريد عالمية بهدف شامل يتمثل في خفض التكاليف، ونجحت عولمة الإمدادات في تجاوز حجم التجارة العالمية في 2021 مبلغ 22 تريليون دولار، وهو ما يمثل بمقدار عشرة أضعاف عن عام 1980، وأثبتت التكتيكات أنها فعالة من حيث التكلفة، ولكنها جاءت مع مقايضات حتمية، إذ أدت المسافات الطويلة بين المنتج والمستهلك إلى جعل سلاسل التوريد العالمية أكثر عرضة للاضطرابات الخارجية، ما يعني أن هذه المتغيرات تقوم بتفتيت إمبراطوريات الشركات الإنتاجية إلى مراكز متعددة بالقرب من أسواقها الرئيسية في محاولة لتقليص المسافة بين المنتج والمستهلك حتى لا تخضع للمخاطر الجيوسياسية.
تتجه الولايات المتحدة نحو دعم التصنيع المحلي والتوريد، فبدأت الشركات الصناعية في تقريب الإنتاج والموردين من الوطن لتقليل التعقيد وتخفيف التأخير، حيث تشهد الولايات المتحدة موجة تضخم لم تشهدها منذ أربعة عقود، مما يضر المستهلكون إلى تقليص الإنفاق بشدة، مما جعل توقع الطلب أكثر صعوبة في عام 202، مما فرض على أوبك بلس تخفيض إنتاجها 2 مليوني برميل يوميًا تماشيًا مع عدم اليقين في الأسواق العالمية، بسبب عدم اليقين الجيوسياسي بعد غزو أوكرانيا الذي جعل الكثير من الدول تعاني من تضخم أسعار الطاقة والغذاء بسبب أن الغزو ألقى بسلاسل التوريد في حالة من الفوضى ما أدى إلى أزمة غذاء عالمية.
هذه التغيرات دعمت توجهات سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي أراد رسم مستقبل السعودية في أن يكون أكثر إشراقًا، وأن تكون السعودية مركزًا لوجستيًا عالميًا يربط القارات الثلاث، وأنموذجًا للنقل المستدام، بوصف السعودية دولة متوسطة ودورها محوري، وكذلك بوصفها جزءًا لا يتجزأ من منظومات الأعمال للقطاعات الصناعية والتجارية والاقتصادية كافة وفق شراكة إستراتيجية تكاملية.
هي فرصة للسعودية التي تسعى إلى أن تكون وجهة عالمية للخدمات اللوجستية، يجعلها تتجه نحو توطين سلاسل الإمداد السعودية لاستثمار موقعها اللوجستي المتوسط بين العالم، وفي الوقت نفسه مواجهة الظروف الجيوسياسية.
لذلك اتجهت السعودية نحو تدشين 59 منطقة لوجستية في السعودية تدعم حركة ونمو سلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية، من أجل التمكن من أداء دور إقليمي وعالمي، مما شجعها على اختيار 18 منطقة صناعية لتوسيع نطاق عملها لتصبح منطقة صناعية لوجستية تخدم وصول منتجات هذه المصانع ليس فقط داخل السعودية بل أيضًا لمنافذ التصدير بكفاءة عالية، تستثمر انخفاض تكلفة نقل وتخزين البضائع السعودية المنشأ لتمكين الصناعات المحلية من التوسع التي هي إحدى ركائز مستهدفات رؤية المملكة 2030.